بيتُ الدُّمَى المَسْكون لِكاري أبسون

هومليبك، الدنمارك — لمن تنتمي ذاكرة ما؟ ما ماهية الذاكرة أصلاً؟ وهل تظل ذكرياتك ملكك دائماً؟ تتردد هذه الأسئلة في أروقة “بيت الدمى” (Dollhouse)، المعرض الرجعي للفنانة الأمريكية كااري أبسون في متحف لويزيانا، وهو أول عرض من هذا النوع بعد رحيلها في 2021 إثر مرض السرطان عن عمرٍ ناهز 51 عاماً. يحتل المعرض ردهة الجناح الجنوبي بأكملها، وهو عمل ضخم ومتعدد الأوجه يشمل منحوتات، لوحات، أفلام، أعمال تركيبية، رسومات وغيرها. ولكن قبل كل شيء، يبرز المعرض منهج أبسون العملوي الغزير — فغالبية القطع المعروضة أنجزت خلال العقد الأول من الألفينيات — وحسها الفني الآسر الذي يمزج السخرية بالمروع. كانت تملك موهبة خاصة في تشويش السكون المنزلي؛ إدخال شعورٍ من الغرابة إلى تفاصيل الحياة اليومية. صيغ المعرض كشقة دمية مفروشة يمكن للزائر أن يتجول فيها، مما يدفعه للتساؤل عما إذا كان ما يختبره حقيقيًا أم مجرّد مسرحية للذاكرة.

لا يسير المعرض وفق تسلسل زمني — وهو منهج مناسب لطبيعة أعمال أبسون الملتوية زمنياً. ومع تشارك العديد من الأعمال لنفس العناوين، يصبح من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحديد بداية ونهاية حقيقية لبعض المشاريع التي امتدت لسنوات. بدل ذلك قُسّم المعرض إلى محاور موضوعية: «عندما التقت كااري بلاري» حول أثر رجل نصفه حقيقي ونصفه مفترض على عملها؛ «حياة الأشياء» عن قدرة الأشياء على احتضان قصص؛ «مطاردة التاريخ» عن قراءات مُشكّلة لسيرتها الذاتية؛ و«النهاية» عن استغراق أبسون في مواضيع الختام والموت.

يعد «لاري» أحد الشخصيات الأكثر حضوراً في عمل أبسون. انطلقت تصوراتها عنه من بقايا منزل مهجور عبر الشارع من بيت طفولتها، فشرعت في تصوير حياة ساكنه المفترضة من نوع بلاي بوي. يضم المعرض أعمالاً كثيرة من تلك الفترة، من بينها العمل التركيبي الكبير “Recollection Hysteria” (2012)، حيث أعادت تأثيث غرفة من المنزل المهجور بلاتكس مصبوغ بألوان باهتة من ذاكرة مشوشة، فوضعت مراتب وأبواب وأغراضاً أخرى في أوضاعٍ تتحدى الجاذبية: ما ينبغي أن يكون على الأرض وُضع على الجدران، وما ينبغي أن يعلو الجدران جُعل في السقف. يظهر الرجل أيضاً في “Kiss” (2008)، حيث ضغطت أبسون بورتريهات مرسومة رطبة لنفسها ولِـ«لاري» معاً بأوضاع مختلفة، وفي مقاطع فيديو غير معنونة تقطع فيها دمية جسده بينما ترتدي زي ممرضة، كجارٍ شبح لا وجود له.

يقرأ  قطعة الطراز القديم من بيت الجدة — أصبحت رائجة من جديد

من العناصر المؤثرة في المعرض مجموعاتها من الأثاث اليومي: مرتبة سيليكون تطلق صبغةً لامعة غريبة في “X (King)” (2013)؛ أرائك مشوّهة تبدو كابوسية ومهيبة في آن معاً في “Left Brace Erase, Back Brace Face” (2016)؛ وسطر من العكاكيز المصنوعة من اللاتكس والمثقوبة بالتراب والشعر في “Cult of Individualism” (2012) التي تذيب حدود الهشاشة والهمجية. هذه أعمال جسدية حميمية؛ لا يكتفي المشاهد برؤيتها بل يشعر بها بديله الحسي.

يلعب عملان تركيبيان كبيران بمظاهر الطفولة واستدعاءها في أكثر صورها انغماساً في هوس أبسون ببيوت الدمى. “لا وجود لشيء يُدعى الخارج” (2017–19) يعرض منزلاً خالياً بالحجم الطبيعي، وفي مساحته الزحفية المظلمة تتناثر مقتنيات منزلية مثل حبوب دواء وطقم أسنان وطاولات قهوة، لا يضيئها سوى الضوء الذي يخترق ثقوب الأرضية الخشبية العليا. قربه يُعرض فيديو لِـأبسون ورفيقة طفولة تلعبان ألعاب الأطفال بينما تتشوّه ملامحهما وتُسقط صورٌ متحرّفة على عيونهما المغلقة، أصواتهما تتداخل وتَتلاشى. في المقابل، “أرجل الأم” (2018–19) عبارة عن غابة من أقواس أرجل أبسون المصبوبة بحجم أكبر من الطبيعي، تتدلى من السقف كأنها لحم مُبتور — كأنما المكان الذي بدا آمناً للاختباء لطفل بطول الركبة لم يكن ملاذاً حقاً.

بيت الدمى معرضٌ متكامل، يفتح أبواباً متعددة لموضوعات عملها الكبرى ويخلّف انطباعاً مزعجاً وعميقاً. كل تفصيل في العرض يشي بالخوف القابل للتعاطف من أن العالم ليس المكان الجميل الذي نودّ أن يكون، مهما طوينا عليه ستار التمثيل. تتربص في أعمالها دوماً فكرة الكمال الملوث؛ المشاهد متلصص على صراع ما بين توقعات عليا، انتماء مصطنع، وواقع قاتم. هنا، في بلدة صغيرة ذات صورة idylٍ تطل على مياه مضيق أُورِسوند الهادئة، يُدعى مرتادو المتحف إلى مشاهدة عملية انفصال تدريجي. إنها لعبة ذكية تكشف حقائق ربما لا ترغب في معرفتها عن ما ظننت أنك تعرفه جيداً. هل ما تذكره هو حقاً ما حدث؟

يقرأ  «ما بين السطور»عرض لتقاليد الفن المقاوم داخل السجون — كولوسال

“كااري أبسون: بيت الدمى — معرض رجعي” مستمر في متحف لويزيانا للفنون (Gammel Strandvej 13, 3050 Humlebæk, الدنمارك) حتى 26 أكتوبر 2025. نظم المعرض بالتعاون بين متحف لويزيانا، كونست هاله مانهايم، وماسي لوغانو. سيُعرض لاحقاً فى مانهايم، ألمانيا، في Kunsthalle Mannheim من 13 فبراير حتى 31 مايو 2026، وإلى ماسي لوغانو في سويسرا في مواعيد ستعلن لاحقاً بين 2026 و2027. قام أندرس كولد بتنسيق المعرض.

أضف تعليق