من بطل إلى عنصر مُخترَق من الداخل، كانت حياته رواية عن أمة تمزّقها الآلة نفسها التي بنتها.
يميل الكينيون إلى وصف رايلا اودينغا، زعيم المعارضة الذي توفي يوم الأربعاء عن ثمانين عامًا، بأنه «لغز السياسة الكينية» إشارة إلى سيرة صدرت عنه عام 2006 للروائي النيجيري بابافيمي باديجو. قدرته الاستثنائية على النجاة، بل وعلى الازدهار، في صفوف السياسة العليا لعقود أخَّرت خصومه وأثمرت صداعًا للحكومات التي واجهها. لكنني أراه أكثر مرآة من لغز: تجسيدًا لمأساة كينيا.
ابن نائِب الرئيس الأول لكينيا، شق طريقه كمكافح للحرية والحكم الرشيد، من سجون وتعذيب الدولة إلى بعض أرفع المناصب السياسية. ومع ذلك، في نهاية حياته بدا أن التنازلات التي قبِل بها، والمصافحات التي نقطت مسيرته، قد أثّرت فيه، فأبقى جيل جديد يبتعد عنه ويعيره جزءًا من سبب ما عانته البلاد.
طوال مسيرته الطويلة كان ملازمًا للنضال من أجل كينيا أفضل؛ من استعادة التعددية الحزبية في تسعينات القرن الماضي إلى معركة دامت ربع قرن من أجل دستور جديد، لم يكن بعيدًا عن الأضواء. قلّة هم من امتلكوا قدرته على حشد الكينيين أو التأثير في أنصاره. ورغم إيمانه بضرورة استبدال النظام الرئاسي بنظام برلماني، موقف جادّ دافَع عنه خلال مؤتمر الدستور عام 2003، خاض سباقات رئاسية منذ 1997 عدا عام 2002، عندما كانت عبارته «كيباكي تكفى» كافية لدفع موهابي كيبّاكي إلى الرئاسة.
بدا الرجل الذي كانت البلاد تفرح به وتمنعه في آن واحد؛ ربما سُلبت منه الرئاسة في محاولتيْن وربما ثلاث، في 2007 و2013 و2017. رفضه الرضوخ للظلم جعل خصومه — وحتى صحيفة نيويورك تايمز — يطلقون عليه لقب «خاسر دائم». ولجوؤه إلى الشارع وسيلةً للاحتجاج ليس على النزاعات الانتخابية فحسب بل على سياساتٍ دولةٍ فظّة، جعل منه أيضًا متهمًا بأنه مُثيرٌ للعنف السياسي، مع أن العنف المصاحب للتظاهرات في كينيا يكاد دائمًا أن ينبع من أجهزة الدولة.
ومع هذا، لا بدَّ من تذكر أن أساطيره ومبادئه لم تمنعه من نوبات من النفاق اللافت. إنها صورة قوية عن كيفية فساد السلطة حتى بين أعظم المصلحين في البلاد. في عام 2000، وبعد مصافحته نظام الديكتاتور دانيال أراپ موئي التي انتهت بتعيينه في حكومته، دعا رفاقه السابقين في المعارضة إلى اتهامهم بالخيانة لإقامتهم تظاهرات مناوِئة للحكومة من دون ترخيص. وفي 2006 تفاخر بأنه، كجزء من «تحالف قوس قزح» الذي أنهى هيمنة حزب كانو، حال دون تحرّك حكومة كيباكي لمساءلة الديكتاتور عن عمليات النهب التي جرت خلال ربع قرنه في الحكم. وفي أوائل 2008، ادى المأزق بينه وبين كيباكي حول الانتخابات الرئاسية المعيبة في ديسمبر 2007 إلى مقتل نحو 1300 كيني وتشريد مئات الآلاف. وبعد أشهر قليلة، وبعد مصافحة أخرى أدت إلى تعيينه رئيسًا للوزراء ليصبح ثاني شخص في تاريخ كينيا يصل إلى هذا المنصب، تورطت عائلته ومقربون منه في فضيحة دعم ذرة تركت ثلث البلاد يواجه الجوع.
لكن ما كسر ظهر سمعته حقًا كانت مصافحته الشهيرة عام 2018 مع الرئيس أوهورو كينياتا، التي جاءت بعد قمع الدولة العنيف عقب إلغاء نتائج انتخابات 2017 التاريخية. رآها كثيرون خيانة لمناصِريه، أكثر من سبعين منهم قتلوا على يد قوات الأمن أثناء الاحتجاجات على الانتخابات التي أعيدت بسرعة والتي قاطعها رايلا، وما تلاها من أحداث. بعد تلك المصافحة، ومع أنه ظل يمتلك بعض القوة لخوض محاولة رئاسية أخيرة، بدا أنه صار قوةً مستهلكة. تحدّيه لنظام ويليام روتو في أواخر 2022 ومطلع 2023 كان ظلًا باهتًا للاحتجاجات التي قادها في سنواتٍ سابقة، وطار على الساحة انتفاض جيل زد لاحقًا.
جسدت حياة رايلا وعدًا وخيبة أمل: ولدت كينيا في كفاح، تربّت على أمل، وتعرّضت للخيانة. لكن المأساة الحقيقية ليست فقط في تنازلاته، بل في نظام جعل من النزاهة أمرًا شبه مستحيل. رغم إنجازاته الجسيمة التي ميزته بين معاصريه على مستوى القارة والعالم، سارت حياته في مسار اعتاد عليه كثيرون من أكثر السياسيين الواعدين في كينيا وإفريقيا. تركه الموت ضربة قوية للوطن، وسيُذكره كثيرون بمحبة، لكن لا بد أن تكتنف هذه الذكرى درجة من الحزن والغضب لما كان يمكن أن يكون لولا واقع كينيا نفسها.
وجهات نظر هذا النص تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.