من الوهم إلى السلام الحقيقي محكّ ترامب في غزة وأوكرانيا دونالد ترامب

رئاسة دونالد ترامب تُسوِّق لصورتها كصانع سلام، لكن الشعارات العالية تبدو فارغة على أرض الواقع. يدّعي الفضل في جهود إنهاء الحروب في غزة وأوكرانيا، لكنّ ما يَظهر حتى الآن هو غياب رؤية سياسية جذرية تُحوّل التهدئة المؤقتة إلى سلام دائم.

المشكلة ليست في مقدار الجهد المبذول بقدر ما هي في غياب المفاهيم الصحيحة. يخلط ترامب بين “السلام” و”وقف إطلاق النار”؛ والنتيجة أن الهدنات سرعان ما تنزلق إلى تجدد القتال. منذ عهد ليندون جونسون صار الرؤساء الأمريكان خاضعين لجمجمة صناعات السلاح التي تجني أرباحاً من استمرار النزاعات، وترامب لم يفعل سوى السير على هذا الطريق بتجنّبه لأي حلّ قاطع للحربين في غزة وأوكرانيا.

السلام ليس مجرد وقف إطلاق نار. السلام الدائم يتطلب معالجة الخلافات السياسية الجذرية التي أفضت إلى الحرب: مواجهة التاريخ، وتطبيق القانون الدولي، وموازنة المصالح الإقليمية والدولية التي تُغذي الصراع. دون المساس بالجذور السياسية للأزمة، تبقى الهدنات فواصل زمنية بين جولات جديدة من المجازر.

طرح ترامب ما سماه “خطة سلام” لغزة كانت في الواقع صيغة لوقف مؤقت لإطلاق النار، من دون معالجة مسألة الدولة الفلسطينية كحق سياسي ووظيفي. خطة سلام حقيقية يجب أن ترتبط بأربعة نتائج متلاقية: وقف الانتهاكات الجماعية في حق الفلسطينيين، نزع سلاح حماس وفق ترتيبات قابلة للقياس، قبول دولة فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، وتطبيع علاقات دبلوماسية شاملة بين إسرائيل وفلسطين على مستوى عالمي. هذه الأسس غائبة في مقترح ترامب، ولذلك لم تُصَدِّق عليه أية دولة بشكل جاد؛ وقد اكتفى بعض الأطراف بتأييد إعلان مؤقت للسلام والازدهار بوصفه إجراءً تكتيكياً.

قُدِّمت خطة ترامب إلى دول عربية وإسلامية بوصفها وسيلة لتبديد الزخم الدولي المؤيد للاعتراف بالدولة الفلسطينية. تهدف الخطة عملياً إلى تفكيك هذا الزخم، مما يتيح لـالحكومة الإسرائيلية مواصلة سياساتها في الضم الفعلي للضفة الغربية، واستمرار القصف على غزة، والتضييق على المساعدات الطارئة بحجة الأمن. من جهته، أعلن بنيامين نتنياهو بوضوح في الأمم المتحدة رغبته في إلغاء أي أفق للدولة الفلسطينية، وترامب وحلفاؤه يساهمون في دفع أجندته.

يقرأ  فصائل فلسطينية مسلحة تفكر في نقل الرهائن إلى مدينة غزة لردع هجوم جيش الدفاع الإسرائيلي

من ناحية أخرى، تبين هشاشة “خطة” ترامب باستعادتنا للتجارب السابقة: اتفاقيات أوسلو، قمم كامب ديفيد وغيرها من عمليات السلام التي اعتبرت إقامة الدولة الفلسطينية أمراً مستقبلياً بدلاً من أن تُعامَل كحل جوهري للنزاع. لو كان لدى ترامب نية حقيقية لإنهاء الحرب لاضطر إلى مواجهة شركات التكنولوجيا الكبرى وصناعات السلاح التي تستفيد من الصراعات (تعاقدات ضخمة تمول من قبل الولايات المتحدة). ومنذ أكتوبر 2023 أنفقت امريكا 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية لاسرائيل، كثير منها يعود بأشكال ربحية إلى وادي السيليكون وشبكات الصناعات الحربية.

على ترامب أيضاً أن يقطع علاقاته مع مانحته الكبرى مريم عادلزون واللوبي الصهيوني إذا أراد أن يمثل فعلاً إرادة الشعب الأمريكي، الذي تظهر استطلاعات أنه يدعم إقامة دولة فلسطينية. خطوة من هذا النوع ستضع الولايات المتحدة في صف الإجماع الدولي الذي يدعم حل الدولتين استناداً إلى قرارات مجلس الأمن وآراء المحاكم الدولية.

الفشل نفسه في تصدير صورة “صانع سلام” يظهر بجلاء في ملف أوكرانيا. وعود ترامب الانتخابية بإنهاء الحرب “خلال 24 ساعة” اقتصرت على مقترحات لوقف إطلاق نار لا ترتبط بتسوية سياسية فعلية، فالحرب مستمرة. سببها ليس لغزاً، بل سياسة توسعية للناتو مدفوعة بمؤسسات الصناعات العسكرية والضغوط التي رافقت دعم انقلابات وتغييرات نظامية (كما حصل في كييف 2014) وإدخال أوكرانيا في مدار صدام مع روسيا. الحل الحقيقي كان ولا يزال في حياد أوكرانيا كمنصة جسر بين موسكو والناتو، واتفاق أمني متوازن يضمن مصالح الأطراف الثلاثة.

في ربيع 2022، عندما توسطت تركيا في عملية تفاوضية مبنية على عودة أوكرانيا إلى الحياد، ضغوط أميركية وبريطانية أجبرت الأوكرانيين على الانسحاب من المفاوضات. ما لم تُعلن الولايات المتحدة بوضوح تنازلها عن سياسة التوسع إلى أوكرانيا، لن يقوم سلام مستدام؛ والخيار الوحيد هو تسوية تفاهمية تقوم على حياد أوكرانيا وضمانات أمنية متبادلة تشمل روسيا والدولة الأوكرانية ودول الناتو المجاورة.

يقرأ  المملكة المتحدة تمنع مسؤولين إسرائيليين من المشاركة في معرض دفاعي استنادًا إلى الحرب على غزة

يقول كارل فون كلاوزفيتز إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى؛ لكن ربما الأدق أنها فشل للسياسة نفسها. عندما تؤجل الدول القضايا السياسية الجوهرية أو تنكرها، وتتهرّب من التفاوض، فالنتيجة غالباً حرب. السلام الحقيقي يتطلب الشجاعة والقدرة على ممارسة السياسة، ومواجهة من يجنون أرباحاً طائلة من الحروب.

لم يحاول أي رئيس أميركي بجدية صنع سلام منذ عهد جون ف. كينيدي لدى كثير من المراقبين في واشنطن؛ ويذهبون إلى أن اغتيال كينيدي رسّخ نفوذ الصناعات الحربية في مؤسسات القرار. كذلك تغطرس القوة الأمريكية الذي لاحظه ويليام فولبرايت في ستينيات القرن الماضي في سياق حرب فيتنام، ظل عاملاً مساهماً. ترامب، مثل أسلافه، يعتمد في رؤيته على الإكراه والضغوط المالية والعقوبات والدعاية لإجبار منافسيه، ظانّاً أن ذلك يكفي لإخضاع بوتين لمطالب الناتو ولإخضاع العالم الإسلامي لقبول سيادة دائمة لاسرائيل.

لن تتجاوز إدارة ترامب ونخب واشنطن الموالية لصناعات الحرب هذه الأوهام من تلقاء نفسها. رغم عقود من احتلال الأراضي الفلسطينية وحرب أوكرانيا التي تعود جذورها إلى 2014، تستمر الحروب بينما تُصبّ الأموال في خزائن ماكينة الحرب.

مع ذلك، لا يزال هناك بصيص أمل، لأن الواقع عنيد. حين يلتقي ترامب قريباً في بودابست بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد يساعده مضيفه المجرب وذو النظرة الواقعية، رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، على فهم حقيقة أساسية: يجب أن يتوقف توسع الناتو لفتح طريق سلام في أوكرانيا. وبالمثل، يمكن لزعماء موثوقين لديه في العالم الإسلامي — رئيس تركيا رجب طيب أردوغان، وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس إندونيسيا برابوو سوبريانتو — أن يشرحوا له ضرورة قبول فلسطين كعضو في الأمم المتحدة الآن، كشرط مسبق عملي لنزع سلاح حماس وتحقيق سلام حقيقي، لا كوعود غامضة لآفاق بعيدة.

يقرأ  دريم بوكس ماث — من ديسكفري إديوكيشن — تتَوَّجُ بجائزة تيك إدفوكيت لعام ٢٠٢٥

يمكن لترامب أن يحقق سلاماً إذا عاد إلى الدبلوماسية الحقيقية. نعم، سيحتاج لمواجهة صناعات الحرب، واللوبيات الداعمة لاسرائيل، ومروّجي الحروب، لكن العالم والشعب الأمريكي سيكونان في صفه إذا اختار هذا الطريق.

الآراء الواردة هنا تعبّر عن رأي الكاتب/ين ولا تعبّر بالضرورة عن الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق