أوروبا غير مستعدة لصد فصل جديد من النشاطات العسكرية والاستخباراتية الروسية
قال مخضصون لقناة الجزيرة إن القارة الأوروبية لا تزال غير مهيأة لمواجهة فصل جديد من التحركات العسكرية والاستخباراتية الروسية في بحر البلطيق والبحر الشمالي. وفي الوقت نفسه، يحذرون من أن اتساع الشرخ بين أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأمريكية يترك أوروبا دون دعم كافٍ.
قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة كانت نموذجاً صارخاً على ذلك؛ إذ عرقلت بلجيكا خطة استخدام أموال روسية مجمّدة لتمويل دفاع أوكرانيا وتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية، بينما لم تُذكر مسألة «أسطول الظلال» الروسي، المشتبه في استخدامه لأعمال تجسس وتخريب، في استنتاجات القمة.
«أوروبا اليوم ليست أكثر استعداداً لمواجهة التمدد العسكري الروسي مما كانت عليه في 1939 عندما كانت القوات النازية على الأبواب»، قال جوزيف فيتساناكيس من مركز الاستخبارات التطبيقية بجامعة كوفستال كارولينا، مضيفاً أن دولاً على الخطوط الأمامية مثل فنلندا وبولندا ودول البلطيق «لا تغترّ بما هو قادم»، لكنه أعرب عن مخاوفه من أن المجتمعات الغربية في أوروبا الغربية، وخصوصاً تلك المنقسمة داخلياً والمتأثرة بحملات التضليل الروسية المستمرة، «ليست في وعي كافٍ بالمخاطر التي تهدد أمنها».
منذ 2022 وُجّهت اتهامات لجهاز الاستخبارات الروسي بتنفيذ عمليات تخريب وحملات تضليل تهدف إلى زعزعة التوازن وإشغال الساحات العامة. بحسب آنا فيسلاندر، مديرة شمال أوروبا في المجلس الأطلسي، «الحرب الهجينة تهدف إلى إجهادنا وإشعارنا بأننا في زمن سلام لكننا معرضون للخطر… وفي المقام الثاني إنها تستنزفنا لتصبح أكثر تقبّلاً للهدف النهائي الذي تسعى إليه روسيا: إعادة تقسيم أوروبا إلى دوائر نفوذ».
تحوّل التصعيد إلى مرحلة أكثر علانية في 10 سبتمبر عندما دخلت نحو عشرين طائرة مسيّرة من طراز جيران-2 أجواء حلف الناتو، ما اختبر منظومات الدفاع الجوية البولندية. وخلال ثلاثة أعوام ونصف من الحرب على أوكرانيا، كانت حالات تسلل الطائرات المسيرة إلى بولندا محدودة للغاية.
ثم أكدت حالة من القلق الأوروبي بعد تسعة أيام عندما اخترقت ثلاث مقاتلات ميغ‑31 المجال الجوي الإستوني فوق خليج فنلندا لمدة 12 دقيقة، فقلّبت طائرات F‑35 الإيطالية المتمركزة في إستونيا للاستطلاع لاعتراضها. وفي 21 سبتمبر أرسلت ألمانيا طائرتي يوروفايتر لاعتراض طائرة استطلاع إيليوشين‑20‑إم كانت تطير دون خطة رحلة أو اتصال راديو داخل مجالها الجوي فوق بحر البلطيق. وبعد أربعة أيام ذكر مقر الناتو أن مقاتلتين هنغاريتين من طراز جريبن أقلعتا من سياولاي في ليتوانيا لاعتراض طائرات سو‑30 وسو‑35 وميغ‑31 «قتربت من المجال الجوي اللاتفي».
يفسر فيتساناكيس ذلك بالإشارة إلى أن روسيا بدأت تاريخياً «أنشطة خاصة» خلال ما يسميه مخططوها «الفترة الخاصة» أو «فترة الطوارئ»؛ وهي فترة تتصاعد فيها التوترات قبيل اندلاع نزاع شامل.
خلال الأشهر الأخيرة، تزايدت المؤشرات على أن الجيش الروسي يعد نفسه فعلياً لصراع محتمل مع الناتو. أجهزة الاستخبارات الغربية كانت تصدر تحذيرات منذ يناير 2024 بأن حرباً بين الناتو وروسيا قد تتحقق خلال خمس إلى ثماني سنوات، لكن مسؤولين ألمان – من بينهم مارتن ياغر رئيس جهاز الاستخبارات الفدرالي الألماني – حذروا من احتمال حدوث ذلك أبكر مما يُتوقع.
الأوروبيون يصفون «فترة الطوارئ» أحياناً باسم «المرحلة الصفر»، تلك المرحلة التي تُختبر فيها الردود وتُجمع المعلومات وتُطمس خطوط الفصل بين المدني والعسكري. «مثل مجتمع المخابرات الروسي، الجيش الروسي يستعد بنشاط لحرب مع الناتو»، قال فيتساناكيس.
الكرملين نفى ضلوعه في حالات التسلل بالطائرات المسيرة واتهم أوروبا بإحداث حالة هستيرية. وفي تصريح لممثّل وزارة الخارجية الروسية روديون ميروشنيك لوكالة تاس، قال إن الدول الأوروبية «تبنّت للأسف موقفاً صقرياً»، واتهم سياسيين أوروبيين بمحاولة منع تواصل ثنائي مباشر بين روسيا وأوكرانيا وبين موسكو وواشنطن كسبيل لحل قضايا المواجهة.
ردود فعل متقطعة
بحسب محلّلين، تُسلّح روسيا كل الوسائل كجزء من استعدادها للحرب. يشتبه في أن أسطول الظلال من ناقلات النفط التي تكسر العقوبات كان يحمل معدات للتجسس على اتصالات الناتو ولإطلاق طائرات مسيّرة في بحر البلطيق. قبضت قوات خاصة فرنسية على الناقلة بوراكاي في الثاني من أكتوبر بعد شبهات بأنها أطلقت طائرات مسيّرة؛ وكانت على بعد نحو 80 كيلومتراً جنوب كوبنهاغن عندما أدت أسراب الطائرات المسيرة إلى إغلاق مطار المدينة أواخر سبتمبر، ثم أبلغت مطارات إقليمية أخرى عن حالات مشابهة قبالة الساحل الغربي للدنمارك.
الدول التي تعتمد على معدات صينية لرصد الطائرات المسيرة قد تكون عرضة لتواطؤ محتمل بين موسكو وبكين؛ فقد أُخِذت منظومة رصد الطائرات المسيرة التي بنتها شركة DJI في النرويج خارج الخدمة من قبل الشركة نفسها في اليوم الذي تأثر فيه مطار أوسلو بسرب طائرات مسيرة في 22 سبتمبر. المطارات ومحطات النفط والغاز وغيرها من البنى التحتية تبقى معرضة للخطر من تلك الطائرات.
اعتراضات حلف الناتو لطائرات مسيّرة روسية في بولندا تمت فوريًا بواسطة مقاتلات F‑16 بولندية وF‑35 هولندية وطائرات إنذار مبكر إيطالية، لكنها اعتمدت بشكل كامل على طائرات قتالية عالية التكلفة. أوكرانيا جربت مزيجاً من طائرات وأجهزة مضادة للطائرات المسيّرة، وأنظمة دفاع محمولة على الكتف، ووحدات نيران متنقلة على شاحنات، وتستعد الآن لاستخدام مروحيات. بولندا تتعلّم من تجارب أوكرانيا؛ فقد وظّفت مقاتلين أوكرانيين متقاعدين لتدريب طياريها على الطائرات المسيّرة وأعلنت أنها ستسقط أي جسم غير معرّف فوق الأراضي.
أعلنت الدنمارك هذا الشهر أنها ستفحص الناقلات القديمة للتأكد من التزامها بالمعايير البيئية ومتطلبات التأمين، لكنها لم تَصادر أية ناقلة بعد. ويقترح بعض الخبراء في شمال أوروبا ودول البلطيق أن بإمكان هذه الدول التحرك على نطاق أوسع ضد أسطول الظلال لضرب روسيا حيث تكون معرضة للضرر، لكن ما يُحسب عليه هو «غياب سياسة منسقة» على مستوى أوروبي. «فحوصات على مستوى الاتحاد الأوروبي لأساطيل الشحن أو حظرها، تعزيز المراقبة في بحر البلطيق، استثمارات هائلة مضادة للطائرات المسيرة تتواكب مع الابتكارات، وتوحيد عقوبات متناسقة — كل ذلك مطلوب بشدّة لسد الثغرات»، قال ديميتريس أندرو غرايمز.
على أي طرف تقف الولايات المتحدة؟
اعتمدت الاستخبارات الأوروبية على الولايات المتحدة في مراقبة الأقمار الصناعية والتنصّت الإشاري عبر مسافات بعيدة. وكشفت معلومات أخيراً دور استخبارات أمريكية مهم في حملة أوكرانيا الناجحة ضد مصافي النفط الروسية، شمل ذلك المساعدة في اختيار الأهداف والتوقيت ومسارات التحليق لتفادي الدفاعات الجوية الروسية. لكن جودة هذا التعاون بدأت تتآكل بحسب فيتساناكيس: «أجهزة الاستخبارات الأمريكية تُقوّض منهجياً من قِبل نخبة سياسية مفككة، تستخدمها كورقة سياسية بينما ترفض إعطاء أولوية للتهديد الروسي».
أجهزة استخبارات أوروبية، من بينها الهولندية، قلّصت مؤخراً كمية المعلومات التي تشاركها مع واشنطن، وليسوا وحدهم في ذلك. «وكالات الاستخبارات الأوروبية توقفت منذ زمن عن مشاركة معلومات حساسة مع واشنطن»، بحسب فيتساناكيس، الذي أرجع المشكلة إلى أسباب سياسية. وأضاف أن التذبذب في المواقف الأمريكية يقلل من معنى التصريحات الاستراتيجية، ما يترك تساؤلات حول موقف الولايات المتحدة الحقيقي.
تهديدات أمريكية بشأن غرينلاند وإجراءات تجاه كندا أضعفت ثقة الأوروبيين في التزام واشنطن بحلفائها وسيادة القانون. وبحسب فيتساناكيس، فإن الغزو الشامل لأوكرانيا يمثل «أكثر فترات نصر بالنسبة لروسيا منذ أواخر الأربعينيات»، لأنه «شلّ حلف الناتو عبر إحداث شرخ بين أوروبا والولايات المتحدة وكذلك بين الولايات المتحدة واوكراينا».