صوت الأرجنتينيون يوم الأحد في انتخابات نصفية جذبَت اهتماماً دولياً غير عادي، جزئياً بسبب وعود إنقاذ مالي بقيمة نحو 40 مليار دولار قدمتها واشنطن لعاصمة البلاد المثقلة بالديون — وهو إنقاذ ربطت إدارته بنتائج الاقتراع. وقد صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل التصويت بوضوح أن ضخّ الأموال مرتبط بما ستفضي إليه صناديق الاقتراع.
وبالفعل لم يخيب حليفُه اليميني المتطرف، خافيير ميليي، توقعاتَ الدعم. حزبُه «لا ليبرتاد أڤانزا» حقق فوزاً مفاجئاً ونسبة تزيد على 40% من الأصوات بحسب النتائج الأولية، بينما كانت نصف مقاعد مجلس النواب الأرجنتيني وثلث مقاعد مجلس الشيوخ على المحك.
لم يَتأخر ترامب في احتساب هذا الإنجاز لمصلحته الشخصية، مدعياً أن ميليي «حصل على كثير من المساعدة منا. لقد حظي بمساعدة كبيرة». قبل الانتخاب أوضح ترامب أن إيمانه بفلسفةٍ اقتصادية معينة يجعل الدعم الأميركي مبرراً، حتى وأن إدارته كانت تطبق تقشّفاً واسع النطاق داخلياً على قطاعات مثل الصحة والخدمات العامة.
من جانبه، بيّن وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت أن الجسر المالي الذي تمدّه الولايات المتحدة الى ميليي يهدف إلى «إعادة جعل الأرجنتين عظيمة». وسرعان ما لُخّص المشهد بعبارة MAGA — بنسخة أميركا اللاتينية.
لكن، كما هو الحال في الخطاب الأميركي نفسه، يبقى السؤال متى كانت الأرجنتين «عظيمة» على نحو حقيقي؟ لا يُغفل التاريخ أيام الحرب القذرة المدعومة أميركياً في السبعينات، حين قامت دكتاتورية يمينية بقمع وقتل وتهجير عشرات الآلاف من اليساريين المشتبه بهم، بعضهم رمي من الطائرات في المحيط أو في نهر ريو دي لا بلاتا. كما وثق المؤرخ غريغ جراندن في سيرة هنري كيسنجر إرشادَ هذا الدبلوماسي الدائم لوزير خارجية المجلس العسكري في 1976 بأن «إن كان هناك ما يجب القيام به فليُنجَز بسرعة».
اليوم يقف ترامب على أهبة الاستعداد لقيادة نفوذ أميركي متجدّد في تلك الدولة الجنوبية. ومع أن أيام إسقاط الأجساد من الطائرات قد ولّت، فلا يزال في الأفق متسعٌ لبطش يميني بعقليات وحلول قاسية.
ميليي الذي يعرّف عن نفسه بأنه «أناركوكابيتالي» وتولّى الرئاسة في 2023، جعل من عرض المناشير بالمنشار شعاراً خطابياً في تجمعاته للدلالة على مقاربته الحادة للحكم: تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة، مع تنفيذ موجات تسريحات جماعية وخفض المعاشات.
خلال الأشهر الستة الأولى من برنامجه التقشفي ارتفعت معدلات الفقر إلى نحو 53%، وتراجعت التضخم إن صحّت القراءة لكن القوة الشرائية انهارت، واستطلاعات الرأي أشارت إلى أن الأغلبية العظمى من الأرجنتينيين لا تكسب ما يكفي لتغطية نفقاتها الشهرية. الانتصار التشريعي الأخير — أو خلّص ترامب بأنه انتصارـه — مثّل ضمانة لاستمرار استراتيجية «المنشار» التي أفضت إلى اكتفاءٍ مريح لطبقاتٍ نخبوية معينة.
حتى الآن كان حزب ميليي يملك أقل من 15% من مقاعد الكونغرس، ما أجبر الرئيس على التنازع مع معارضة كانت تلغي في كثير من الأحيان رفضه لقوانين مثل زيادة حقوق ذوي الإعاقة وإعادة تمويل المستشفيات الجامعية وبرامج رعاية الأطفال. لكن انتصاره الأخير يغيّر هذا التوازن.
جهود ميليي القاسية تلقى إعجاباً صريحاً لدى ترامب، الذي دافع عنه مراراً قائلاً إن «الجميع يعلم أنه يقوم بالعمل الصحيح، لكن هناك ثقافة يسارية متطرفة مريضة تحاول الإساءة إليه». ولتوضيح السخرية في هذا الخطاب، يلزم القول إن «ثقافة يسارية متطرفة» يجب أن تكون حقاً في غاية التطرف كي تطالب بأن يتلقى الأطفال الرعاية الصحية أو أن يُقدم الدعم للأشخاص ذوي الإعاقة.
عملياً، ساهمت سياسات الحكومة في زيادة أعداد المعاقين بإجراءات قمعية، منها إطلاق خرطوش المطاط والغاز المسيل للدموع على متظاهرين بينهم متقاعدون. في مارس مثلاً، فقد جوناثان نافارو (33 عاماً) بصرَ إحدى عينيه إثر إصابته برصاصة مطاطية بينما كان يحتج دفاعاً عن والده ونحو آخرين من المتقاعدين.
من جهة أخرى، تبادل ترامب ومايليي نكاتٍ عن إمكانية إرسال صواريخ توماهوك إلى الأرجنتين «للاستخدام ضد المعارضة»، كما تقاربت مواقفهما إزاء إسرائيل، وقد اقترح ميليي في أغسطس مبادرة بمليون دولار لتعزيز العلاقات بين أميركا اللاتينية وإسرائيل.
قائمة التشابهات تطول: لطالما تغاضى ترامب عن الفساد والمحسوبية ما دام العائد يعود عليه، وميليي لم يتردد في تعيين أخته سكرتيرةً عامة للرئاسة. كارينا ميليي أصبحت محطّ فضائح عديدة من بينها تسجيلات مسرّبة تُظهر مسؤولين يناقشون رشاوى مزعومة متعلقة بعقود أدوية مخصّصة لذوي الإعاقة — فضائح هدّدت، كما أفيد، أداء حزبه في الانتخابات.
بالطبع، فقط «ثقافة يسارية متطرفة مريضة» كانت لتستنكر مثل هذه الترتيبات.
الآن، وبعد أن أحدثت الانتخابات منعطفاً أعادت به الزخم لتجربة السوق الحرة المتطرفة لدى ميليي، فإن الأرجنتينيين الفقراء هم أكثر من خسرانين. وواشنطن لديها ما تكسبه: قال ترامب في خطابه بعد النتائج إن «أسعار السندات ارتفعت وارتفع تصنيف ديونهم — لقد جنينا الكثير من المال بناءً على تلك الانتخابات». وأضاف أن الولايات المتحدة «ليست في ذلك من أجل المال بالمعنى الحرفي»، فلتتذكّر الأرجنتين هذه الكلمات وهي تُقطع بالحزام الى العظمة من جديد.
الآراء المعبر عنها هنا تعكس رأي الكاتب الخاص ولا تعبر بالضرورة عن سياسة التحرير في قناة الجزيرة.