تصاعدت الأصوات المطالبة بوقف سوء معاملة الفلسطينيين من قبل اسرائيل، وتحولت المظاهرات إلى تحركات أوسع وأصوات أعلى في شوارع ومدن العالم.
تدفق مشاهد ما يحدث في غزة مباشرةً إلى شاشات الملايين أحدث صدمة عالمية، ومع مرور الوقت ارتفع منسوب الدعوات إلى مقاطعة اسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة.
تصاعد المقاطعة وتحولها الرقمي
ما بدأ قبل عقدين تقريبًا كمقاطعات هادئة على رفوف المتاجر، تحوَّل اليوم إلى تطبيقات يستخدمها ملايين المستهلكين لاتخاذ قرارات شراء واعية. هذه الأدوات الرقمية، التي ترافقها حملات توعية مستمرة، سهلت على الناس تجنب علامات تجارية يُعتبر أنها متورطة في سياسات الاحتلال.
الحرم الجامعي والاقتصاد والسياسة
شهدت الولايات المتحدة وكندا اعتصامات وحراكات طلابية دفعت بعض مؤسسات التعليم الكبرى إلى إعادة النظر في علاقاتها مع نظيراتها الإسرائيلية، كما تراجعت استثمارات باتجاه اسرائيل وتبنّت بعض الاقتصادات الكبرى اعترافًا بدولة فلسطين. هذه التطورات انعكست أيضًا في قرارات اقتصادية وسياسية عديدة على مستوى المدن والحكومات.
قصة وعي شخصي
الدكتور محمد مصطفى، طبيب فلسطيني–أسترالي، ينحدر من عائلة غزاوية تركت دير البلح قبل عقود بحثًا عن حياة أفضل. تطوّع في مستشفيات غزة خلال العامين الماضيين وشارك تجربته على منصات التواصل الاجتماعي، من زياراته ومؤتمراته وصولًا إلى نشاطه المناصِر للقضية الفلسطينية.
يقول إن مشاهدة ما يشبه إبادة جماعية تُبث مباشرة غيرت الكثير من المواقف: «لسنوات كنا نصرخ في فراغ. أما الآن، فأن ترى شعوبًا على قارات مختلفة تتظاهر، وتنتج أعمالًا فنية، وتطالب بالعدالة — يمنحك ذلك أملاً بأن وِعْي العالم بدأ يستيقظ. لم أتخيل يومًا هذا المستوى من التضامن العالمي… رؤية هذا المدّ يتغير الآن مؤثرة بعمق؛ كأن الحقيقة وجدت صوتها أخيرًا».
امتداد الاحتجاجات: نحو 50 ألف تحرك خلال عامين
سجَّلت الأشهر الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين — بين مايو وسبتمبر 2025 تضاعفت وتيرتها بما يقارب 43% مقارنةً بالشهور الخمسة السابقة. ووفق بيانات مشروع تتبُّع مواقع ونشاطات النزاع المسلح (ACLED)، نُظِّمت ما لا يقل عن 49,000 تظاهرة مؤيدة لفلسطين في 133 دولة وإقليمًا خلال عامين.
أعلى الأرقام ظهرت في اليمن (15,266) تلاه المغرب (5,482)، ثم الولايات المتحدة (5,346)، تركيا (2,349)، إيران (1,919)، باكستان (1,539)، فرنسا (1,397)، إيطاليا (1,390)، إسبانيا (1,102) وأستراليا (967). هذه الانتشارية الواسعة عكست اتساع دائرة التضامن الشعبي وعدد المشاركين في الساحات العامة.
نمو المقاطعة ودور حركة الـBDS
قال عمر برغوثي، المؤسس المشارك لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، إن انعزال اسرائيل الدولي اتسع بفضل جهود الحركة التي أُطلقت عام 2005 للدفع نحو إنهاء الاحتلال وسياسات الأبارتهايد، مستهدفين مؤسسات وشركات متواطئة وليس أفرادًا بالضرورة.
وأوضح برغوثي أن الحركة نجحت في تحويل الحزن والغضب والتضامن الواسع إلى حملات مقاطعة وسحب استثمارات منظمة وغير عنيفة وفعالة. حتى بعض المسؤولين الإسرائيليين اعترفوا بتأثيرات ذلك على التجارة؛ فقد صرّح رئيس معهد التصدير الإسرائيلي في مؤتمر «مايند ذا تك» 2024 بأن المقاطعات وحركات BDS تشكّل تحديات كبرى واضطر بعض الجهات للعمل «تحت الرادار».
هيكلة حملات المقاطعة
حدّدت حركة BDS ثلاث فئات للحملات:
– أهداف مقاطعة أولوية: شركات ومؤسسات ثبت تورّطها في سياسات الاحتلال والأبارتهايد، وتدعو الحركة لمقاطعتها تمامًا.
– أهداف ضغط: شركات تمارس ضدها حملات ضغط من خلال مقاطعات انتقائية، حملات توعية، احتجاجات سلمية وإجراءات قانونية استراتيجية.
– مقاطعات عضوية: مبادرات محلية تنطلق من مجتمعات قاعدية، تدعمها الحركة نظرًا لتواطؤ العلامات التجارية المستهدفة.
أمثلة على مقاطعات يومية وتأثير التطبيقات
تروي سمية رشيد*، أم مغتربة تقيم في الإمارات وتبلغ من العمر 45 عامًا، كيف تعلم ابنتها البالغة 11 عامًا واقع أطفال فلسطين، وتشرح لها أن شراء بعض العلامات التجارية قد يساهم بشكل غير مباشر في استمرار العنف. تقول: «لم نعد نشتري من ماكدونالدز، كنتاكي، بيتزا هت أو كارفور. كانت هذه سلعًا نعتمدها قبل المقاطعة». وقد وفّرت الأسواق المحلية بدائل في كثير من الحالات، لكنها تعتمد على تطبيق Boycat للتأكد من أي منتج غير واضح مصدره أو صلته بالكيانات المتواطئة.
تطبيقات مثل Boycat، التي تشارك حركة BDS في تحديث قوائمها، سهلت على المستهلكين اتخاذ خطوات مادية تجاه المقاطعة، مما جعل الحملة أكثر فاعلية وانتشارًا.
صوت يتردد في كندا
في تورونتو، تقول جاسبريت كور* (26 عامًا) إن مساحات الكلام الداعم لفلسطين تواجه قيودًا معينة في كندا، لكنها تؤكد أن تجربة فلسطين فتحت آفاقًا جديدة للكثيرين حول العالم.
خلاصة
الاحتجاجات العالمية، وسائل التواصل، أدوات المقاطعة الرقمية، وحركات البوصلة الأخلاقية الجماعية شكّلت معًا بيئة جديدة من الضغط الشعبي والمؤسسي على السياسات المتعلقة بفلسطينييْن. ومع استمرار تزايد الوعي والمبادرات، تبدو المعركة على أرض الرأي العام والاقتصاد يمضي فيها التأثير بوتيرة متسارعة، في وقت تتصاعد فيه الدعوات لإيجاد حلول سياسية تحترم حقوق الإنسان وتحقق العدالة.
*الأسماء مُستعارة حفاظًا على الخصوصية. مؤسسه واحدة من الجهات المذكورة. حتى مجرد النظر إلى فنجان قهوتك الصباحية ورؤية ذلك يتحول إلى حاجة جوهرية — ضرورة تبدو في نفس الوقت رفاهية خالصة، يحمل في طياته طابعاً وجودياً بالنسبة لي.
«الأطفال لا يستطيعون اللعب في الشارع خوفاً من القصف — هذا أمر لا أحتاج أن أفكر فيه أبداً»، تقول كاور.
«لا أتذكر آخر مرة تناولت فيها ستاربكس أو ماكدونالدز، أو استخدمت Airbnb أو booking.com»، تضيف بحزم.
تقول كاور إنها قاطعت قدر الإمكان، مستخدمة تطبيقات ترشدها إلى الخيارات البديلة، لكنها تعترف بأن بعض سلع المستهلكين التابعة لل multinacionals تسرّبت مجدداً إلى حياتها بسبب ضغوط الميزانية.
بعيداً عن اختياراتها الشخصية في التسوق، وجدت كاور صعوبة في التعبير العلني عن دعمها لفلسطين أثناء عملها في قطاع التمويل المؤسسي. «لا أحضر الاحتجاجات بقدر ما أريد، نزعت غطاء هاتفي الفلسطيني وأزلت العلم الفلسطيني من حسابي على إنستغرام، لا أستطيع أن أكون صاخبة بالقدر الذي أحتاجه أو أرغبه على الصعيد الشخصي».
وبينما تنتظر الحصول على جنسيتها كوافدة، تشعر أن أفعالها وآرائها بشأن فلسطين لا تُقبل علناً وفي بيئة العمل بنفس الدرجة.
ما أثر المقاطعة؟
لم تقتصر آثار المقاطعات على التأثير في أرباح شركات معينة متواطئة في سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة، بل أدت أيضاً إلى سحب استثمارات من إسرائيل وفرض حظر دولي عليها، ما زاد الضغوط الاقتصادية والسياسية عليها.
في نوفمبر 2024 أغلقت سلسلة التجزئة الفرنسية كارفور جميع متاجرها في الأردن. وقد أضاءت حركة المقاطعة طويلاً على علاقات كارفور التجارية مع شركات إسرائيلية تعمل في مستوطنات غير قانونية في الضفة الغربية المحتلة. وغادرت الشركة أسواق الكويت وعمان والبحرين أيضاً، وأعيد فتح تلك المواقع تحت اسم HyperMax، وهي سلسلة محلية للأغذية أطلقها صاحب حق الامتياز الإقليمي ماجد الفطيم. تُعتبر هذه الإغلاقات نصرًا مهماً للحركة، إذ تُظهر قدرة الحملات التي يقودها المستهلك على التأثير في شركات متعددة الجنسيات.
شعرت اثنتان من أكبر سلاسل الطعام والمشروبات الأميركية، ماكدونالدز وستاربكس، بتأثير المقاطعات، مع تراجع المبيعات وتعرّض السمعة لهزات، لا سيما في الشرق الأوسط ودول مسلمـة مثل ماليزيا وإندونيسيا. خلال مكالمة أرباح في يناير 2024 قال المدير التنفيذي لماكدونالدز، كريس كيمبشينسكي، إن العملاق السريع قد شهد «تأثيراً ملموساً» في عدة أسواق. وأبلغت ستاربكس عن ثلاثة أرباع متتالية من تراجع المبيعات العالمية، مع انخفاض الإيرادات بنسبة 2٪ لعام 2024. وفي سبتمبر أعلنت الشركة عن خطط لإغلاق عشرات الفروع الأميركية وتسريح نحو 900 موظف كجزء من إعادة هيكلة بقيمة مليار دولار تهدف إلى عكس تراجع الأداء.
محتجون من «ائتلاف فلسطين» يتجمّعون دعماً للفلسطينيين بعد دخول هدنة بين إسرائيل وحماس حيز التنفيذ في غزة، لندن، المملكة المتحدة، 11 أكتوبر 2025 [جايمي جوي/رويترز]
الانسحابات والعقوبات والإجراءات الدبلوماسية
في سبتمبر ألغت الحكومة الإسبانية صفقة أسلحة مع إسرائيل قيمتها نحو 700 مليون يورو (815 مليون دولار). وكان رئيس الوزراء بيدرو سانشيز قد أعلن سابقاً عن قانون يحظر التجارة العسكرية مع إسرائيل، ودخل حيز التنفيذ في 9 أكتوبر.
في 2024 سحبت صندوق معاشات التقاعد النرويجي وشركة AXA الفرنسية استثماراتهما من أصول إسرائيلية مرتبطة بالمستوطنات. كما سحبت صناديق معاشات التقاعد في إيرلندا والدنمارك وهولندا استثمارات من شركات مرتبطة بإسرائيل، من بينها Caterpillar وExpedia وTripAdvisor، بسبب مخاوف تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان ومشاركتها في مستوطنات إسرائيلية غير قانونية.
في يونيو فرضت أستراليا وكندا ونيوزيلندا والنرويج والمملكة المتحدة عقوبات رسمية على وزراء إسرائيليين من اليمين المتطرف، إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، بتهمة «التحريض على العنف» ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. وفي الشهر نفسه دعت إيرلندا وسلوفينيا وإسبانيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. كما طالبت السويد المجلس الأوروبي باعتماد عقوبات «ضد وزراء إسرائيليين يروّجون لأنشطة استيطانية غير قانونية ويعملون بنشاط ضد حل التفاوض على أساس دولتين».
بالنسبة لفلسطيني يشاهد تَحَوّل المد العالمي، يقول مصطفى إنه يشعر بأن حركة فلسطين أصبحت «واحدة من أكثر حركات العدالة الاجتماعية ديناميكية في عصرنا». «لقد جمعت بين ناس من كل الخلفيات — دينية وعلمانية وسكاناً أصليين وعالمية — موحِّدةً إياهم تحت مطلب مشترك للكرامة الإنسانية. لهذا أعتقد أن الحركة الفلسطينية ستشكل كيفية خوض وفهم النضالات المستقبلية من أجل العدالة.»
مراقبة الأمم المتحدة
منذ 2020 حافظ مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على قاعدة بيانات للشركات التي تَستفيد من مشروع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية. وفي تحديثه لشهر سبتمبر 2025 أدرج 158 شركة تعمل داخل المستوطنات التي وصفتها محكمة العدل الدولية بأنها غير قانونية.