هارمونيا روزاليس إعادة مزج بانثيون الشتات الأفريقي

كيف تبدأ بصنع عالم؟ هذا السؤال واجهته الفنانة المقيمة في لوس أنجلوس، هارمونيا روزاليس، أثناء تأليفها لكتابها الخيالي الرائع “سجلات الأوري: ملحمة إفريقية” (2025). يجمع الكتاب 41 حكاية مترابطة عن الآلهة والإلهات الأفارقة، وعن الطبيعة والسلطة، وعن تطور البشر بالتوازي مع تكوّن الأرض البدائي. تقمصت روزاليس السرد الأسطوري والتاريخي معاً، فأعادَت وضع الأحداث المعروفة في سياق عالم الـOrishas، ومعظم الحكايات مصحوبة بثلاثين لوحة ملونة كاملة الصفحة تزيد من حيوية الأساطير وشخصياتها.

يعتبر الكتاب وعاء طموحاً للبانثيولوجيا الإفريقية والروحانيات المشتتة في الشتات، وامتداداً قوياً لأسلوب روزاليس المميز في تصوير الحكايات الملوكية والأسطورية. تستعين لوحاتها بصرائف من تقنيات الباروك وعصر النهضة لتقديم أجساد ذات بشرة بنية في موقع الصدارة، مع ألوان غنية تنبثق من القماش. وأساس فنها ينبع من قلب هذه الحكايات، التي منحتها مهمة ربط الشتات الأفريقي ببعضه عبر عملها، كما فعلت في “Unbound” (2025)، التمثال العام في كينغز تشابل ببوسطن، وفي معرضها “السرد الأساسي” (Master Narrative) بمتحف ممفيس بروكس عام 2023.

أصل تسمية الكتاب يعود إلى مفهوم “أوري” في اليوروبا، المصطلح الذي يدل على المصير الذي تحدده الآلهة، والحكايات جاءت من روتين سردي كان ينسجها والدها وجدتها لأوساط طفولتها، روابط تربطها بجذورها الأفرو-كوبية. كونها جيلًا أولًا من جهة والدها والثاني من جهة والدتها، حملت روزاليس لواء سرد تضحيات الأسلاف كزرع لخيرٍ مستقبلي؛ وسجلات الأوري هي أحدث مشاريعها في هذا المسعى.

المحاور: كم استغرق صنع “سجلات الأوري” من الفكرة حتى الإصدار؟

روزاليس: بدأت الفكرة قبل عدة سنوات؛ أظن أن العملية الفكرية انطلقت قبل نحو خمس سنوات، لكن الجوهر — المعنى والحكايات وكيف جمعتها — يعود إلى بدايات مسيرة فني، أي منذ نحو عشر سنوات.

المحاور: في مقدمتك تشيرين إلى أن الحكايات تشكّلت على فم والدك وجدتك. هل تذكرين قصة بعينها أثرت فيك طفلة؟

روزاليس: أكثر ما بقي معي كانت قصص أويا وشانغو. أويا إلهة الريح، وشانغو رمز الرعد والبرق؛ معًا يصنعان العواصف الرعدية. عندما انتقلنا من شيكاغو إلى شامبين، سكنّا في بيت كبير قديم دائمًا في حالة إهمال، كان في سقفه فتحة نصل إليها فنتسلقها لنراقب السحب قبل أن تهب العاصفة. في تلك اللحظات شعرت أن أويا وشانغو يعيشان فوقنا، يتصارعان في السماء؛ جعلت هذه الرؤى الآلهة ملموسة بالنسبة لي، وربطتني بالطبيعة وبشيء أكبر، وشكّلت فهمي لما يعنيه الانتماء إلى هذه الأسطورة الحية أو التقليد الحي.

يقرأ  «لم يَرتَح لي الأمر أبدًا»لماذا غيّرت آنا وانسيك اسم علامتها من سيزيك ديزاين إلى آنا آند؟

المحاور: كثير من الشتات الأفريقي يتمحور حول التقليد الشفهي؛ الغرب نادراً ما يقدّر ما ليس مكتوبًا. عندما لا يمكن تتبعه، يُصنَّف على أنه غير أصيل. كيف ترين دورك أو تأثيرك، مهما كان ضئيلاً أو كبيرًا، في استعادة الاعتراف بالماضي الأفريقي؟

روزاليس: أعتبر عملي جزءًا من تصحيح تاريخي. ما تقولينه صحيح؛ السرديات الغربية تميل إلى إقصاء التقاليد الشفوية لأنها تبدو “غير موثوقة”، كأنها لعبة هاتف مُتَناقَلَة، بينما هي في الواقع الطريقة التي حفظنا بها حقيقتنا لقرون. في كوزمولوجيا اليوروبا، التاريخ يعيش في الفن نفسه، في الجسد وفي الطبل؛ أمور تتجاوز زعمات الثقافة الغربية بأنها أقل أهمية، بينما هي في الواقع ذات قوة هائلة. لذا هناك فائدة من محو تلك القوة، وهذا ما أحاول مقاومته: استرجاع ما نُزع منا من السرد المركزي. أحاول أن أُبَيّن أنه عبر أسلافنا توجد سجلات تاريخية، ولهذا أجريت بحثًا كبيرًا وربطته بهذه الحكايات — لم يكن الأمر عسيرًا حقًا. كانت القصص تشبه قطع أحجية أضعها معًا، مماا جعل عملية التركيب ممتعة ومجزية.

المحاور: حدثينا أكثر عن مصدر الحكايات ولماذا قررتِ تحويلها إلى سرد خطي بدلاً من مجموعة حكايات قائمة بذاتها كما رويت لك؟

روزاليس: اطلعت على كتّاب آخرين تناولوا نسخًا من هذه الحكايات وتساءلت لماذا لم تبزغ نسخهم إلى التيار العام. قرأت “التحولات” لأوفيد ثم أساطير اليوروبا. الاختلاف هنا أن أساطير اليوروبا غالبًا ما تفتقر إلى ترابط خطي. فمثلما جمع أوفيد الحكايات اليونانية ونسجها ضمن تاريخ سيزر، صنعت أنا سردًا خارجيًا خطيًا ذا معنى وربطته بمرساة تاريخية. اضطررت أحيانًا لإعادة تصور بعض الميثولوجيات لربطها، لأن للأورِيشاس شخصيات مميزة تتداخل أحيانًا عبر الزمن، وكان لا بد من مواءمتها مع ما نعرفه عن تاريخ الأرض.

يقرأ  قاضٍ اتحادي يرفض طلب كاسم «سويز بيتز» دين لإسقاط التهم في قضية فضيحة 1MDB

المحاور: وكيف جمعتِ بين الآلهة المكتشفة والوقائع التاريخية؟

روزاليس: نظرت إلى الميثولوجيات الأصلية حول العالم. قررت أن أكتب كما كتب الإغريق، متخيلة أن أرض اليوروبا هي العالم بأسره. على سبيل المثال، ثمة حكاية عن أودودوا، مؤسس مملكة الإيفا (في نيجيريا اليوم)، ومعظم الروايات تقول إنه جاء من الشرق. تابعت هذا النَسَب نحو شرق أفريقيا، وبعض الروايات قالته أتى من شرق أبعد. لذا بحثت عن شخصيات سود أو مُهمَلة يُشار إليها في نصوص غربية دينية بجملة أو فقرة، ونظرت إلى مملكة ما بين النهرين؛ العملية كانت امتدادًا لقراءة تاريخية مقارنة ومحاولات لملء الفراغات حيث تبدو السجلات الرسمية مفقودة أو مشوّهة. كان هناك شخصيّة تُدعى لامورادو — تحوير لشخصيّة نمرود التي تُصوَّر في النصوص القديمة كرمزٍ للشرّ لأنّها تمثل الإيمان بتعدّد الآلهة. جعلتُ لامورادو والدَ أودودوا؛ ولما أعدم لامورادو، بات أودودوا أميراً منفيّاً هاجر إلى قارة إفريقيا، إلى أرض اليوروبا حيث تتلاقى ثقافاتٌ متعدّدة وشعوبٌ مهاجرة. لماذا لا؟ لنمنح لأنفسنا رخصةً فنية لنرسم صِلَاتٍ بين الشعوب، ولنُلمّ بحضورٍ يسبقُ التوثيق.

ح: كلمة “التبجيل” تتكرّر كثيراً في ذهني حين أطلع على عملك. ماذا تعني لك شخصياً؟

هارمونيا روزاليس: التبجيل عندي يعني التذكّر. يعني أن توقِف لحظةً لتستحضر كلّ ما أوصلَك إلى هنا: أسلافك، تاريخك، الأرض، الأشجار، كلّ شيء. حين أفكّر في الرسم، مع أنّي أعمل منفردة على اللوحة، فأنا لستُ وحيدة؛ أنا أستمدّ من كلّ ما رباي، وما اختبرتُه ورأيته: العائلة، الإرث، السرد التاريخي والجذور. هذا كلّه شامل، والتبجيل هو تقديرٌ واعترافٌ بذلك — تأمّل، استذكار، امتنان.

(الصورة: هراج فارتانيان/هايبرا ألِرْجيك) — هارمونيا روزاليس مع عملها «أوري» في مجموعة المتحف بروكلين الدائمة عام 2024

يقرأ  جامع أعمال فنية يقاضي دار كريستيز بسبب بيع لوحة بيكاسو كانت مملوكة لزعيم تجارة الكوكايين

ح: كيف تغيّر دورك كفنانة حين تُحضّرين كتاباً مقارنةً بتحضير معرض؟

هارمونيا روزاليس: أعود دائماً إلى قول توني موريسون: “إذا كان هناك كتابٌ تريد قراءته ولم يُكتب بعد، فعليك أنت أن تكتبه.” هكذا أتعاطى مع كلّ شيء. لا توجد لوحة ما أريد رؤيتها؟ سأرسمها لأنّي أريد أن يراها أولادي. عملي في الكتابة كان تجربة مثيرة: كان عليّ أن أصف كلّ شيء، وأن أدمج طبقات المعنى والرموز والاستعارات. كيف أكتب بطبقات كما أطلي بطبقات؟ هما شكلان مختلفان من التعبير، لكنّ كلّ ما كان عليّ فعله هو أن أكتب ما كنت أرسمه طوال الوقت. عندما أدركت ذلك، اصبح الأمر أسهل.

حين أقدّم هذا العمل في صورة كتاب، أرى هذه القصص كشيءٍ أُتيح للناس الذين قد لا يستطيعون اقتناء لوحاتي. أعطيهم وصولاً إلى عالمي، ليكونوا جزءاً منه عبر رواية هذه الحكايات لأبنائهم، وليشاركوا في المهمة الأكبر: ربط الشتات ببعضه.

ح: خصّصتِ هذا الكتاب لجدّتك. هل ثمّة قصص أو شخصيّات في الكتاب تذكّرك بها بشكلٍ خاص؟

هارمونيا روزاليس: ليس تقريريّاً شيء محدّد. أنا أفعل هذا من أجلها. رحلت بعد معرضي الأول في 2017، فلم تُعشْ لتشهد هذا كله. إنّي أوصلُ إرثها، ما تركته لي وصيةً روحانية ومادّية: جدّتي، رغم أنّ الناس كانوا يرونها ربّة منزل متواضعة لم تتقن الإنجليزية وتوقّفت دراستها في الصف الخامس، كانت تدرك ما له قيمة حقيقيّة. تمسّكت بممارساتها التقليدية وبالقوة التي تحوزها تلك الممارسات؛ كانت هذه أغلى ما تملكه لتنقله إلينا. هذا تكريمٌ لها. مهمّتي كلّها لها، ولأطفالي، ولنَفسي؛ ولغيري الذين يشعرون بالغربة، الذين يشعرون أنهم غير مرئيّين أو مسموعين أو محترمين — لجميع المهاجرين. وأشعر بالاكتمال مع التقدّم في هذا المسار.

أضف تعليق