أندرو هاردينغ — مراسل في باريس
شهدت محكمة باريس هذا الأسبوع محاكمة ثلاثة عملاء سريين متهمين بالمساعدة في حملة حرب هجينة تقودها موسكو بهدف «زعزعة» فرنسا؛ عنوان يشي بجرعة عالية من الدراما والتشويق والدهاء.
لو أن الأمر كان كذلك فعلاً.
على مدى ثلاثة أيام، وفي قاعة جلسات فسيحة مكسوة بخشب الصنوبر على الطرف الشمالي للعاصمة، جرت أطوار القضية ضد ثلاثة رجال بلغاريين بدا عليهم الافتقار إلى أيّ ملامح بطولية. جلسوا خلف زجاج، وتوارَت ظلال ثلاثة عناصر شرطة كانوا، على ما بدا، منهمكين في هواتفهم المحمولة — مشهد أقرب إلى همهمة هادئة داخل مكتبة منه إلى مسرحية تجسس.
«لم أكن أعلم بالمكان الذي كنا فيه قط.»
«فعلت ذلك من أجل المال.»
«أنوي في المستقبل أن أشارك في أعمال خيرية.»
تكاد هذه الجمل المقتضبة من أقوال المتهمين تلخّص نبرة المحاكمة: مواعظ مقلّمة، دوافع رتيبة، محاولات متعثرة لتحويل اللوم، تذمّر من ظروف السجن وتقييمات نفسية لا ترقى إلى الإقناع.
حُكم على الثلاثة بالسجن بين سنتين وأربع سنوات يوم الجمعة الماضية.
لكن التقليل من شأن هذه الرتابة المسموعة ــ من الدوافع المبتذلة إلى الاعترافات المترددة ــ يعني تفويت الحقيقة الجوهرية.
فالبساطة هنا ليست خطأً ولا عيباً، بل هي الهدف ذاته.
مثل الطائرات المسيرة الرخيصة التي باتت روسيا وأوكرانيا تستخدمانها لمراقبة خطوط الجبهة، يمثل هؤلاء الرجال في قاعة 2.01 بقصر العدل نموذجاً من التطور منخفض التكلفة في أساليب الحرب الهجينة الحديثة:
ابتكارٌ مفاجئ وفعّال بشكل مخيف.
اعترافات جورجي فيليبوف ونيكولاي إيفانوف وكيريل ميلوشيف، وهم يقفون بوقار داخل قفص الزجاج، جاءت مبطَّنة بالإقرار بتنفيذ الأفعال ونفي العمل لصالح قوة أجنبية أو التحلّل من صفة معاداة السامية.
في صباحٍ مبكّر من شهر أيار/مايو 2024، على ضفاف السين في قلب باريس، تآمر الرجال الثلاثة لرشِّ طلاء أحمر — وسجّلوا فعلتهم بالفيديو — على «حائط الأبرار»، وهو نصب تذكاري لمن أنقذوا اليهود الفرنسيين من الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية.
تركت آثار 35 قبضة حمراء على نصب الذكرى للشواه، ورُسمت خمسمئة قبضة أخرى في أماكن مختلفة.
كان ذلك بداية سلسلة هجمات رمزية في فرنسا: رؤوس خنازير وُضعت أمام مساجد (نُسب فعلها إلى مجموعة من الصرب)، توابيت تُركت بشكل مريب قرب برج إيفل، ونجوم داود تُرسم في أنحاء العاصمة.
انتشر خبر كل حادثة بسرعة عالمية — ليس فقط عبر وسائل الإعلام التقليدية، بل بواسطة جيش آلي من «تروّالرات» روسية على وسائل التواصل؛ بحسب وكالة فرنسية تتابع هذه الظاهرة، تسعى هذه الشبكات إلى تسليح كل شاردة وواردة من الأخبار لزرع الشكوك حول استقرار المجتمع الفرنسي، وضعف ديمقراطيات أوروبا، ومؤسساتها وقيمها.
تُعدّ فرنسا هدفاً مغرياً للكرملين بسبب الانقسامات السياسية والاجتماعية الراهنة، وموقفها الغامض أحياناً من حلف الناتو، وتعدد سكانها المسلمين واليهود، وصعود اليمين المتطرف، وتاريخ التواطؤ والعلاقات الوثيقة مع موسكو على طرفي الطيف السياسي.
في عصر آخر، ربما لجأ الكرملين إلى عملاء عميقين من جهاز المخابرات لتنفيذ أعمال تخريب مباشرة. لكن، — ومرة أخرى تشبيه الطائرات المسيرة هنا ملموس — لماذا الاعتماد على أصول ثمينة كعملاء مدرَّبين تدريباً عالياً أو صواريخ باليستية ضخمة أو غواصات لقطع كابلات تحت البحر، بينما يمكن ببضعة آلاف يورو، عبر قنوات سرية قابلة للنفي، تجنيد جيش هامشي من المجرمين الصغار أو الشباب العاطلين الباحثين عن شهرةٍ متطرفة؟
«لم أكن أعلم بالمكان الذي كنا فيه أبداً»، قال جورجي فيليبوف محاولاً تبرير دوره في عملية «الأيادي الحمراء»، مدّعياً أنه جاء من بلغاريا لكسب بعض المال ليساعد في نفقة طفله البالغ تسع سنوات.
تزعم النيابة أنه تقاضى 1000 يورو بالإضافة إلى مصاريف السفر.
في قفص الاتهام بدا فيليبوف، 36 سنة، نحيفاً ومشدود العضلات، يهتزّ قليلاً كما يفعل ملاكم قبل النزال، حين طُرح عليه سؤال عن وشومه — لا سيما الصليب المعقوف على صدره والصور على وسائل التواصل التي تظهره بأداء تحية نازية وقميص ادّعى فيه أن هتلر «كان محقاً».
«اتخذت خيارات سيئة في الماضي»، قال فيليبوف مشيراً إلى أنه أزال بعض الوشوم بالفعل.
قضت محكمة الجنايات في باريس بسجنه لعامين.
بعد تسليمهم قضائياً من بلغاريا وكرواتيا إلى فرنسا للمحاكمة، حاول المتهمون تحميل اللوم لرجل رابع، ميرشو أنجيلوف، الذي لا يزال هارباً ويُزعم أن له صلات بضابط استخبارات روسي؛ وحُكم عليه غيابياً بثلاث سنوات.
المدعى عليه الثاني، كيريل ميلوشيف، 28 عاماً، قال إنه جاء إلى فرنسا بعدما انفصل عن شريكته، ويعاني اضطراباً ثنائياً القطب، وأنه رغب في مرافقة صديقه ميرشو. نال حكماً بالسجن لعامين.
جلس بجانبه نيكولاي إيفانوف وعبس جبينه وهو ينفي أي روابط مع روسيا. تحدّث عن دور أجداده في إنقاذ يهود أثناء الحرب العالمية الثانية وقال إن طموحه الآن الحصول على درجة ماجستير في القانون وأن يعاد إليه حبيبته — إن بقيت تريده بعد كل هذا.
اعتبرته المحكمة العقل المدبّر للمؤامرة فحكمت عليه بأقسى العقوبات: أربع سنوات سجن.
أما عن الدور المزعوم لروسيا في قضية «الأيادي الحمراء»، فقد اعترف دفاع المتهمين بصراحة أنهم «يشتبهون» بتورط موسكو. لكنهم أصرّوا، كما فعل موكلوهم، على أنهم كانوا بيادق غير واعية، عملاء بالوكالة — ويمكن القول «طائرات مسيرة» — في حرب ظلّية ضد الغرب.