اجتاحت فيضانات هائلة أجزاء واسعة من باكستان، مصبِّحة مدنها وقُراها في حالة ترقُّب دائم. في كثير من المواقع غمر الماء الشوارع والمحاصيل، وأحدث دماراً لا يزال يتبيَّن مداها.
في مشهد مؤلم، بحث رجال الإنقاذ وأقارب عن رضيعَة تبلغ سنة واحدة، زارا، وسط مياه ارتفاعها يصل إلى الركبة؛ كانت قد جرفت بها سيول مفاجئة بعد أن فقدت والديها وثلاثة من أشقائها الذين عُثر على جثثهم قبل أيام. جدها أرشاد روى كيف تسلَّق إلى السطح لينجو بنفسه ثم رأى العائلة تُجرف بعيداً عن طريق ترابي في قرية سامبريال بنهْر الشمال في آب/أغسطس — لكن محاولاتهم للالتحاق به أتت متأخرة، فجرفت المياه العاتية الأسرة كاملة.
بدأ موسم الأمطار هذا العام في أواخر حزيران/يونيو، وخلال ثلاثة أشهر فقط أسفرت السيول عن مقتل أكثر من ألف شخص وتأثّر ما يقرب من 6.9 مليون نسمة، وفق مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA). ورغم أن باكستان مسؤولة عن نحو واحد في المئة فقط من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، فإنها تواجه آثار التغير المناخي بأقسى صورها.
من جبال الشمال الشاهقة إلى سهول الجنوب الواسعة، تصاعدت تأثيرات الاحترار بطرق مختلفة في كل إقليم، لكن عامل الفقر ظل ثابتاً: الفقراء هم الأكثر تضرراً. التقينا أسر فقدت منازلها وسبل عيشها وأحباءها، ورغم ذلك كانت تتهيأ بقلق لأن تتكرر الكارثة مع قدوم مونسون جديد.
تفجّر البحيرات الجليدية والسيول المفاجئة
في مناطق جبال الهيمالايا وكاراكورام وهندوكُش أكثر من سبعة آلاف نهر جليدي، والتدفّق الحراري المتزايد يتسبَّب في ذوبانها وتشكل بحيرات جليدية قد تنفجر فجأة؛ ما يسمى بـــ«انفجارات بحيرات جليدية» التي تهدِّد آلاف القُرى. صعوبة الوصول وشح خدمات الهاتف المتحرك تحولان دون تحذيرات فعّالة في الوقت المناسب، ورغم جهود باكستان والبنك الدولي لتحسين أنظمة الإنذار المبكر، غالباً ما تعيق طبيعة التضاريس الجبلية عمل هذه الأنظمة.
في مثل هذه الظروف يصبح التكاتف المجتمعي مورداً ثميناً. عندما استيقظ الراعي واست خان على هدير مياه محمّلة بقطع جليد وحطام، انتقل إلى مكان ذي تغطية هاتفية ليحذّر أقرانه؛ ومن خلال تحركه سُجلت حالات إنقاذ عديدة.
في إقليم خيبر باختونخوا تجلّت المخاطر بصورة أخرى: في قرية غادون تراكَمت الصخور بعد جريان مفاجئ ناجم عن «انفجار سحابي» (cloudburst)، حيث هطول مطري مكثف ومغرٍ في نطاق جغرافي ضيق أدى إلى جرف منازل وانهيارات أرضية. حاول أهل القرى مساعدة بعضهم بحفريات يدوية، لكن الحفّارات والآليات التي كانوا في أمسّ الحاجة إليها جنحت محشورة على طرق غمرتها المياه أو سدتها كتل صخرية ضخمة، فبدا واضحاً أن لا شيء يُحتسب حتى تصل الآلات الثقيلة. في لحظة صمت رُفعت جثتا طفلين من تحت الأنقاض وسط طين أسود.
تأخُّر فرق الإنقاذ وسوء حالة البنى التحتية كان سبباً في امتداد المأساة، حتى أن مروحية إغاثة تحطمت أثناء مهمة وسط الطقس العاصف، مما أسفر عن مقتل طاقمها.
البناء على سهول الفيضانات
على ضفاف الأنهر والجدولانات استقرّ ملايين السكان، بل بعضهم بنى أحياءً كاملة قرب المجاري المائية المعرضة للفيضانات. قانون حماية الأنهار في باكستان، الذي يمنع البناء ضمن مسافة 200 قدم (61 متراً) من النهر أو روافده، وُضع لمعالجة المشكلة، لكن تكاليف الانتقال والفساد المحلي وتواطؤ بعض المسؤولين أدَّت إلى انتهاكات متكررة وخروقات تُفاقم المخاطر. يرى العلماء مثل فهد سعيد أن ضعف الرقابة و«التغاضي» هو ما يسمح للإنشاءات العشوائية بالاستمرار، حتى في مواقع قريبة من مبانٍ حكومية كمنطقة البرلمان.
شيري رحمن، النائبة السابقة وكرئيسة لجنة المناخ في المجلس الأعلى، تصف ذلك بـ«الفساد» أو التغاضي عن منح تراخيص البناء في مناطق خطرة.
غرق سلة خبز البلاد
بحلول أواخر آب/أغسطس اجتاحت المياه نحو 4,500 قرية في إقليم البنجاب، غَمرت مناطق تُعد «سلة خبز باكستان»، في بلد لا يستطيع في جميع الأوقات استيراد الغذاء بسهولة. وللمرة الأولى غمرت ثلاثة أنهار — سوتليج ورافي وتشيناب — في آن واحد، ما استدعى أكبر عملية إنقاذ منذ عقود.
في لاهور تفاوتت التجارب بين أحياء الرفاهية والفقراء: حيّ سكني راقٍ كـPark View City جيفت شوارعه على يد نهر رافي، وأُخلي السكان من منازلهم الفاخرة، بينما في أحياء فقيرة مثل Theme Park كانت المعاناة أشد؛ فبعد أن تنخفض المياه يسبح بعض السكان إلى بيوتهم يحاولون إنقاذ ما تبقّى، ثم يعود الماء ليرتفع فجأة ويتركهم محاصرين من جديد. رأينا رجلاً عائداً إلى منزله ممسكاً بعلّاقة هوائية كما لو كانت حاجته الوحيدة.
نُقِلت أُسر إلى خيام وفرتها مؤسسات خيرية، وسميرة، الحامل قبل أيام من المخاض، تقيم في خيمة مع طفلها أرش وهي تعاني ضعفاً شديداً وتحتاج لنقل دمّ عاجل. في مكان قريب أعاد علي أحمد إنقاذ قطة صغيرة من الفيضان وكان الفتى من بين القلائل الذين لديهم مرتبة للنوم.
بحلول نهاية موسم المونسون نزح أكثر من 2.7 مليون شخص في البنجاب وتضررت أكثر من مليون هكتار من الأراضي الزراعية. وفي مولتان بدا حجم الأزمة الإنسانية واضحاً مع امتداد صفوف الخيام بطول الطرقات.
وصول الرعاية الصحية كان صعباً في ريف باكستان حتى قبل الفيضانات؛ وبعدها أصبحت مأساة خاصة للنساء الحوامل. شاهد مراسلو بي بي سي نساء حاملاً حتى الشهر التاسع يشربن ماءً بنياً ملوثاً، ما زاد مخاوف الأطباء بشأن صحتهن وصحة الأجنة.
البحث عن حلول
تحاول أصوات مدنية وخبراء تقديم بدائل. المهندسة المعمارية ياسمين لاري صممت ما تسميه «منازل مقاومة للمناخ» باستخدام مواد طبيعية مثل الخيزران والاسمنت الجيري، وقامت بتشييد نماذج في قرى عدة. في بلدة بونو قرب حيدراباد أظهرت نساء للمراسلة أكواخاً مستديرة على قواعد خشبية — استعملتها كـ«مراكز تدريب» يمكن للأسرة أن تنقل إليها متعلقاتها وأفرادها عند الخطر. لاري تؤكد أن بناء قرى كاملة على أعمدة سيكون مكلفاً وغير عملي، لكن تصميماتها تضمن أن سقوف المنازل لا تنهار وأن إعادة البناء ممكنة بسرعة بمساعدة السكان أنفسهم.
تقول لاري إن النقطة المحورية لم تعد حماية المباني بقدر ما هي إنقاذ الأرواح.
مستقبل أكثر اضطراباً
خلاصة حديث العلماء والسياسيين الذين التقيناهم كانت متشائمة: المونسون سيزداد عدوانية عاماً بعد عام، وأن كل موسم قد يحمل مفاجآت جديدة. كما ذكر سيد محمد طيّاب شاه من هيئة إدارة الكوارث الوطنية: «كل عام سيكون المونسون أكثر عدوانية، وكل عام سيأتي بمفاجأة جديدة لنا.»
وفي ختام الزيارة، تكررت عبارة واحدة لدى العائدين إلى أماكن ستغمرها المياه على الأرجح في الموسم المقبل: “ليس لدي أي مكان آخر أذهب إليه.” (اصبح) واضحاً أن الحلول تتطلّب سياسات أوسع نطاقاً، استثمارات في التحذير المبكر، وإجراءات جادة لإنهاء البناء في مناطق الخطر وحماية الفئات الأكثر هشاشة.