أوروبا: انفصال حقيقي عن الصين أم تماهي مع الولايات المتحدة؟ الأعمال والاقتصاد

في عام 1987 نشر نيويورك تايمز رسالة مفتوحة موجهة إلى الشعب الأمريكي وقعها مطوّر عقاري من نيويورك يدعى دونالد ترامب، اتهم فيها اليابان باستغلال الولاات المتحدة وحذّر من أن شركاء الولايات المتحدة التجاريين «يستهزئون» بها. بعد ما يقرب من أربعين سنة، وفي فترة رئاسية ثانية، وجّه ترامب نفس الشكاية نحو الصين، متهمًا إياها بالاستفادة من سخاء أمريكا وتقويض نفوذها.

كانت مصادرة شركة نِكسبيريا في سبتمبر 2025 من قبل الحكومة الهولندية أبرز دليل على مدى انخراط حكومات أوروبية في المواجهة التي تقودها واشنطن مع بكين. طُرحت الخطوة تحت ذريعة الأمن القومي، بعد أن اعتبرت لاهاي أن ملكية نِكسبيريا الصينية تشكل تهديدًا للمصالح الاستراتيجية لهولندا.

تتمتع الشركة المعنية بتاريخ معقّد. فقد انبثقت نِكسبيريا من وحدة المنتجات القياسية التابعة لشركة NXP للرقائق، ثم بيعت إلى تحالف من المستثمرين الصينيين عام 2017 لتصبح لاحقًا أحد الأصول الأوروبية التي دخلت محفظة الاستثمارات الصناعية الصينية المتنامية. وبحلول أواخر العقد الماضي كانت تلك المحفظة تضم أسماء في الألعاب الإلكترونية مثل Supercell وSumo وStunlock وMiniclip، وفي الروبوتات مثل Kuka، وخدمات الصرف مثل WorldFirst، وشركات إعلانية متنقلة مثل MobPartner. أوروبا التي طالما اعتبرت تدفقات الاستثمار الصيني علامة انفتاح، باتت الآن تنظر إلى نفس الشراكات باعتبارها تهديدات استراتيجية.

تزايدت وتيرة تلك الاستحواذات بالتوازي مع تصاعد الضغوط داخل أوروبا لحماية قطاعات اعتُبرت حيوية للأمن الوطني. لجأت حكومات إلى تفعيل صلاحيات طارئة لحظر أو التراجع عن ملكيات صينية لأصول باتت تُصنَّف «استراتيجية». لم تكن نِكسبيريا الحالة الأولى؛ ففي 2022 أمرت بريطانيا ببيع حصة نِكسبيريا في Newport Wafer Fab، واستولت فرنسا على شركة Ommic في 2023، بينما أُجبرت شركة Kunlun Tech الصينية في الولايات المتحدة على بيع حصتها البالغة 60% في تطبيق Grindr عام 2019.

يقرأ  قصف إسرائيلي كثيف على غزة يسفر عن مقتل ٨١ شخصًا مع بدء هجوم لاحتلال مدينة غزة

على الصعيد العالمي، أصبحت ردود الفعل بالمثل شائعة. فقد قيّدت بكين في 2024 صادرات معادن أساسية تُستخدم في تصنيع أشباه الموصلات وشدّدت قواعد بيع الرقائق الأجنبية بعد مخاوف أمنية متعلقة بمنتجات شركة Nvidia. في ظل هذه الخلفية، لم يعد مستغربًا أن تتزايد حذر الحكومات الأوروبية تجاه نقل الأصول الحسّاسة والملكية الفكرية إلى الصين.

واستبصار الحماية للصناعات الوطنية ليس جديدًا. مع ذلك، ومن اللافت أن تاريخًا أمريكيًا مبكرًا يحوي أمثلة قريبة: فقد شجّع ألكسندر هاملتون، أحد الآباء المؤسسين، ما يمكن وصفه اليوم بالتجسس الصناعي. في سنوات الجمهورية الأمريكية الأولى حفظ المهندس الإنجليزي سامويل سلاتر تقنية آركرايت للإطار المائي وأسهم في إنشاء أول مصنع قطن يعمل بالماء في رود آيلاند، ومثَّل هاملتون تقليد المحاكاة الصناعية بإطراء في تقريره عن المصانع عام 1791.

مع تقدم الزمن ووصول ما يُسمى «السبعة البارزون»—Alphabet وAmazon وApple وMeta وMicrosoft وNvidia وTesla—إلى نادي الشركات ذات تريليونات الدولارات في 2025، نُسب صعودها إلى عبقرية وابتكار. لكن حين تتعثر، كما في المنافسة بين Tesla وBYD، يتحول السرد غالبًا إلى عوامل خارجية كاللوائح الجائرة أو السرقة الفكرية؛ تُصوَّر استثنائية الولايات المتحدة كقيمة مستحقّة، بينما تُدان طموحات الصين التقنية بوصفها عدوانية وغير شريفة.

فلماذا إذن تتدخل دولة أوروبية في صراع سيطر على أشباه الموصلات بين الولايات المتحدة والصين، وهي تحتل القارة فيه موقعًا ثالثًا وبعيدًا؟

يقول القادة الأوروبيون إن الجواب يكمن في حماية السيادة وتقليص الاعتماد على أنظمة استبدادية. لكن العواقب الاقتصادية بدأت تظهر بوضوح: يتم معظم إنتاج نِكسبيريا في الصين، ما يجعل الشركة عاجزة عن تلبية الطلب دون تلك القدرات التصنيعية. منذ الاستيلاء تباطأت عملياتها، ويواجه مئات موظفاين في هولندا وبريطانيا وألمانيا خطر التسريح. وحذَّرت شركات السيارات العالمية مثل فولكسفاغن وفولفو من احتمال تأخّر الإنتاج نتيجة نقص رقائق السيارات الحيوية للإلكترونيات وأنظمة التحكم بالمركبات.

يقرأ  بعد نحو ثلاث سنوات: الإفراج عن زعيم المعارضة البوليفية لويس كاماتشو

هولندا ليست استثناءً. في أرجاء أوروبا احتضنت الحكومات خطاب «الفصل» عن الصين بينما اقتصاداتها بقيت متشابكة معها إلى حد بعيد. تتناغم مصادرة نِكسبيريا مع أنصار خطاب ترامب عن «يوم التحرير» ورؤيته لفك الارتباط الاقتصادي من الصين كخلاص أخلاقي، وتنبئ بمزيد من استرداد الأصول داخل الاتحاد الذي وُلد في ماسترخت. أما دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى «خفض المخاطر بدلاً من الانفصال» فباتت، في هذا السياق، تبدو بلا صدى.

في العمق هناك استسلام ضمني، بدأ مع خطة مارشال عام 1948 وما زال يوجّه ردود أوروبا على أزمات متعاقبة من الحرب الروسية على أوكرانيا إلى النزاع الراهن على التكنولوجيا. في كل منعطف يعيد المشهد نفسه: عندما تعيد واشنطن رسم خطوطها العالمية، يتبعها الأوروبيون. قد تكون المصادرة الهولندية لنِكسبيريا مبررة بلغة السيادة، لكنها تكشف حجم ما تبقّى من تلك السيادة. وبينما تتصارع الولايات المتحدة والصين على ريادة تكنولوجية، تعود أوروبا لتأخذ موقع الأرضية لا القِطْب الفاعل في النظام الجديد.

الآراء المعبر عنها في هذا النص هي آراء كاتبه ولا تعكس بالضرورة سياسة الجزيرة التحريرية.

أضف تعليق