باتروناتو — أمي كانت روحًا حرة في السابعة عشرة من عمرها بإسبانيا خلال عهد فرانكو

مارينا فريشا كانت تعرف منذ زمن أن هناك شيئاً مظلماً وغير مذكور داخل عائلتها. تفاصيل طفولة والدتها، ماريونا روكا تورْت، بقيت غامضة طوال سنوات؛ والدتها ترعرعت في ظل نظام استبدادي دام عقوداً في إسبانيا وانتهى عام 1975، لكن السؤال عن سبب صمت العائلة ظل معلقاً.

قبل نحو عقد، في ليلة عيد ميلاد، تغيّر كل شيء. كانت الطاولة محاطة بدخان السجائر وكؤوس الخمر شبه فارغة، فقررت ماريونا أن تفتح صندوق ذكرياتها أخيراً. بصوت لا يخلو من مرارة قالت: «والداي أبلغوا السلطات عني. أدخلوني الإصلاحية عندما كنت في السابعة عشرة». صدمة مارينا وأبناء عمومتها كانت عميقة — لم يصدقوا أن الجدّين قد تآمروا على إبنتهم وأرسلوها خلف جدران مؤسسة دينية.

تلك «الإصلاحيات» لم تكن مجرد دور إصلاح بسيطة؛ بل كانت جزءاً من منظومة وطنية أدارها ما عُرف بـ Patronato de Protección a la Mujer — مجلس حماية المرأة — تحت وصاية وزارة العدل وفِي كثير من الحالات بتنظيم ورعاية كنائس وديريات. في تلك المنشآت كانت تُحتجز الفتيات والنساء اللواتي اعتبرن «غير متوافقات» مع القيم الكاثوليكية التي فرضها النظام: أمهات عازبات، فتيات صاحبات علاقات، نساء مثلّيات، وحتى من تعرّضن لاعتداء جنسي وُسِمْن بالخطيئة بدلاً من أن يكنّ ضحايا. ولا توجد أرقام حاسمة تحدد عدد المؤسسات أو المتضررات بدقة.

ماريونا، الابنة الكبرى بين تسعة إخوة، تصف والديها بأنهما متشددان سياسياً ودينياً حتى أنهم لم يسمحوا لها بارتداء سروال. لكنها حين بلغت السادسة عشرة شهدت انفتاحاً: التحقت بدروس مسائية للتحضير للجامعة وتعرّفت على طلاب ونقابيين ويمينيين مناوئين للفاشية — روح الانتفاضات العالمية عام 1968 اجتاحتها، وشاركت مع الرفاق في احتجاجات و«حملات» ضد النظام.

في مطلع مايو 1969، وبعد توقيف أحد أصدقائها في تظاهرة ببرشلونة، لم تعد تجرؤ على العودة إلى البيت خوفاً من الاعتقال أو تسليم أسماء الرفاق. فباتت ليلة في شقة ناشطة أخرى، وعندما حاولت العودة لاحقاً وجدها أهلها في الميناء: لم تعد معها الحرية، بل أخذاها إلى دير ثم إلى مؤسسة في مدريد تابعة للـ Patronato. لم تُعطَ تفسيراً، سوى غضب والديها.

يقرأ  رحلات إعادة المهاجرين إلى فرنسا تنطلق الأسبوع المقبل

في المصالح التابعة لتلك المنظومة، جرت تصنيفات للفتيات: من اعتبروهن «متمردات» و«ساقطات» وُضعن في طوابق منفصلة، مُنِعَتْ عنهن المعرفة المتبادلة، وصُنّفت المحادثات كتهديد لوحدة النظام الأخلاقي. ماريونا تروي كيف كانت الغرف تؤوي عشرين شخصاً، مع راهبة في طرف الغرفة وباب يُغلَق بإحكام. الروتين كان قاسياً: صلوات وقيامة وعبء تنظيف الدير، ثم ساعات في ورشة للخياطة لصالح أسواق محلية، فيما كانت راهبة تقرأ بصوت مرتفع حتى لا تتحادث النزيلات.

كانت هناك محاولات لغسل الوعي وغرس الشعور بالذنب والإقرار بالخطأ، لكن ماريونا لم تَعتَرِف قط. عندما بدأت تنحسر عن الطعام وتفقد الوزن بشكل مريع نُقِلَت إلى مصح نفسي حيث تعرضت — كما تذكر — لجلسات صدمات كهربائية قليلة، تلاها ما عُرف بعلاج الغيبوبة بالإنسولين. ذلك الإجراء، الذي كان كثير من الدول تتخلى عنه لأخطاره الشديدة، كان يتضمّن حقنات تُدخِل المريضة في هبوط سكر عميق ثم إعادة إفاقتها بالقوة وإطعامها. ماريونا تصرّ أن هذه التجارب تركت أضراراً لا تُمحى في ذاكرتها — فأصبحت بعض الأحداث مغيّبة، وبدأت تدوّن ملاحظات يومية لعلّها تحفظ شيئاً مما يحصل.

المعالجون برروا العلاج بأنه وسيلة لإعادة الوزن والسيطرة على «الانحراف»، بل وصل الأمر إلى ربطها بالسرير لإجبارها على الأكل حتى بلوغ وزن محدد — وهو ما وعدها بالإفراج. نجحت في الوصول إلى ذلك الوزن، وفي 1972 عادت إلى برشلونة بعمر عشرين عاماً، مصممة ألا تعود للعيش مع والديها. عملت في وظائف متتالية ثم بنت مسيرة مهنية كمخرجة تلفزيونية، وأنجبت أطفالاً، لكن جروح الماضي أبقت العلاقة بوالديها فاترة.

أخيراً، ظل سؤال لماذا؟ يطرق بابها: عندما سألت أمها عن سبب إرسالها إلى الـ Patronato اكتفت الأخيرة بعبارة وجيزة: «لقد أخطأنا». أما الأب، فكان يرد على استفساراتها بجملة مكثفة: «نحن أيضاً عانينا كثيراً». بالنسبة إلى مارينا، معرفة تفاصيل ما جرى لصديقتها وأمها جعلتها تنظر إلى جدّها بنظرة مركبة؛ لا تستطيع أن تكره ليس من السهل أن تحب من تسبب كل ذلك الألم.

يقرأ  الانتخابات الرئاسية في الكاميرون — بول بيا (٩٢ عاماً) يسعى لولايةٍ ثامنة

الخامس من مايو هذا العام يصادف مرور خمسين سنة على موت فرانكو، والمشهد الحقوقي في إسبانيا تغيّر جذرياً منذ ذلك الحين. لكن الناجيات من منظومة الـ Patronato يطالبن الآن بالاعتراف القانوني كضحايا للنظام وتحقّق رسمي في الانتهاكات. مخرجة شابة — مارينا — جمعت دفتر يوميات أمها الباهت من عام 1971 وأنتجت فيلماً قصيراً بعنوان Els Buits (بالعربية: «الفراغات») في إشارة إلى الثغرات في ذاكرة ماريونا، ولأن الفراغات نفسها جزء من الذاكرة الجماعية المغيّبة. الفيلم نال جوائز وتم ترشيحه لجويا، ويجوب حالياً القاعات والفعاليات المحلية مرفقاً بعروض حوارية مع الجمهور.

في هذه العروض تخرج نساء وتشارك قصصها؛ يبدو أن الفيلم فتح باباً على ما كان طيّ الكتمان، ويمنح الناجيات مساحة للاعتراف والسمع. «الكثير من الناس يظنون أن ما حدث داخل البيت كان حادثة فردية»، تقول مارينا. «نحن نحاول القول: لا، لم تكن قصة معزولة، كانت جزءاً من آلية ممنهجة».

ماريونا نفسها لا تزال، أحياناً، تشك في تامّات ذكرياتها. لكن رؤية الحكاية مجتمعة على الشاشة أعطتها — كما تقول — ثقل الحقيقة. والآن، بينما تكاد الذكرى النصف قرنية لموت الديكتاتور أن تمرّ، تصرّ الناجيات على مطالبة الدولة بالاعتراف، بالعدالة، وربما بالأمر الأكثر إلحاحاً: اعتذار يحيل الألم من حالة فردية إلى مسؤولية تاريخية معلنة. ان هذا السعي نحو الحقيقة لم يكتمل بعد، لكن أصوات النساء التي انفتحت بفضل فيلم واحد تواصل دفع النقاش إلى الأمام.

أضف تعليق