في فوز مفاجئ أثار الدهشة على المستوى الوطني، انتُخب زوهران ممداني، طالِع الولاية البالغ من العمر 34 عاماً، عمدةً لمدينة نيويورك بعد هزيمته لأندرو كومو. مع دعم قوي من تيارات سياسية رفيعة ومساندة ظاهرة من بعض دوائر السلطة، أصبح ممداني أول عمدة مسلم ومهاجر للمدينة، والأصغر سناً في أكثر من قرن. هذه النيّة الانتصارية للاشتراكي الديمقراطي أطلقت صدى واسعاً في المشهد السياسي، وأعطت دفعةً لليمين التقدمي واليساري للمنافسة على برامج طموحة وصريحة كما يقتضي زمن اليوم.
خلال حملته تواصل ممداني مع طيف واسع من المجموعات الاجتماعية داخل المدينة: الأميركيين من أصل أفريقي، والمسلمين، واليهود، والهندوس، وسكان شرق أفريقيا، وجنوب آسيا، وعلى نحو خاص الشباب الذين انسحب كثير منهم من الحياة السياسية بعد سنوات من الإحباط داخل الحزب الديمقراطي. استعاد بعدهم إلى المشاركة، وحشد ناخبين كانوا ليغيبوا عن صناديق الاقتراع لولا تحفيزه.
ببرنامج يطالب بتوزيع أكثر عدلاً للثروات عبر ضرائب أعلى على فئة المليونيرات والمليارديرات، وسوق سكنية أكثر قدرة على التحمل، ونظام حافلات عامة مجاني وسريع، ورعاية أطفال شاملة ومجانية من ستة أسابيع حتى سن الخامسة، طرح ممداني خطاباً سياسياً يجعل من العدالة الاقتصادية محوراً مركزياً للنقاش العام—خطاب لم تشهده الأمة بهذا الوضوح منذ زمن يوحِن ف. ديبس وسابقيه من منظمي العمال والدعاة لحقوقهم.
عندما سُئل مباشرة في بث تلفزيوني عمّا يعنيه أن يكون المرء “اشتراكياً ديمقراطياً”، أجاب ممداني: «أنا أعرّف نفسي اشتراكياً ديمقراطياً متأثراً بكلمات الدكتور مارتن لوثر كينغ قبل عقود: “سمّوها ديمقراطية أو دَعُوها اشتراكية ديمقراطية، يجب أن يكون هناك توزيع أفضل للثروة لكلّ أبناء هذا البلد”.» هذه العبارة وضعت إطاراً أخلاقياً لخطابه السياسي.
لكن ماذا نعني فعلاً بــ«الاشتراكية»؟ لدى كثيرين تثير الكلمة صوراً عن النظام الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي السابق: تخصيص غير فعّال للموارد، وسيطرة الدولة على أصول الإنتاج، وقمع سياسي تحت أنظمة استبدادية. غير أن تلك الصورة تختزل واقعة أوسع؛ ما شهدته التجارب السوفييتية كان أشبه بـــ”الدولةوية” التي تحتكر الدولة فيها القرار الاستثماري والتقني من خلال جهاز تخطيط مركزي، وليس بالضرورة ما تصفه نظرياً مبادئ الاشتراكية.
كما بيّن العالِم إريك أولين رايت، فإن الاستخدام الشائع لعبارة “الاشتراكية” يختزل في الغالب ما هو في الواقع نظام دولةوية مركزيّة. وعلى مدى القرن الماضي خاضت حركات عديدة نضالات من أجل بدائل أكثر مساواة للرأسمالية تحت راية الاشتراكية، لكن المصطلح نفسه ظل موضع صراع تفسير وتأويل داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية.
بالنسبة لماركس، كانت الاشتراكية مبنية على مبدأين أساسيين: أولهما دمقرطة الحياة الاقتصادية، لا الاكتفاء بدمقرطة الإجراءات السياسية الشكلية فحسب—بمعنى أن يكون للعمال والمواطنين صوت حقيقي في توزيع الموارد الاقتصادية. وثانياً تقصير زمن العمل حتى تتاح للناس مساحات لتنمية قدراتهم الإبداعية خارج مكان العمل؛ فانتقاد ماركس للرأسمالية كان يقوم إلى حد بعيد على أنها تقوّض ازدهار الإنسان وتحقيقه لذاته.
ولكن التجارب الاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين تحوَّلت في كثير من الأماكن إلى هياكل مركزية بيروقراطية، غير فعّالة، وذات طابع سلطوي صارم. تحوّلت أنظمة اليوم السوفييتي وغيرها إلى آلات للسيطرة والفساد، فبدلاً من تحرير الإنسان صارت وسيلةً لهيمنة الدولة، ما جعل كثيرين يرون بحلول ثمانينات القرن الماضي أن تلك المشاريع قد فشلت في تحقيق تحول اجتماعي حقيقي.
فإذن، ما هي “الاشتراكية الديمقراطية”؟ المصطلح يجمع كلمتين: “ديمقراطية” و”اشتراكية”. والديمقراطية، في جوهرها، مبدأ اشتراكي أيضاً؛ فهي الآلية الأكثر فعالية المعروفة لضمان أن تكون الدولة خادمة للشعب. فإذا كانت “الديمقراطية” تُعنى بخضوع السلطة السياسية لإرادة الناس، فإن “الاشتراكية” تقترح خضوع القوة الاقتصادية لإرادة الناس. في الاشتراكية الديمقراطية تُنظم السيطرة على الاستثمار والإنتاج بوسائل ديمقراطية حقيقية ومشاركة شعبية.
الهدف الأخلاقي المركزي للاشتراكية الديمقراطية هو أن تُنظم الاقتصاد الوطني لخدمة حاجات وتطلعات الناس العاديين، لا مصالح النخَب. إنها محاولة للتوفيق بين طموح العدالة المساواتية ومؤسسات الحريات الليبرالية: اقتصاد تبقى فيه الأسواق آلية لتخصيص الموارد، لكن ملكية الأصول الإنتاجية وتوزيع الثروة يخضعان لآليات قرار تشاركية وديمقراطية. المقصود ليس إلغاء الأسواق بل جعلها خاضعة للمصلحة العامة، لتعبّر المخرجات الاقتصادية عن قيم مشتركة بدل أن تعكس القوة الخاصة فقط.
أصبح من الواضح اليوم أن الرأسمالية توفر رخاءً لشرائح محدودة بينما تحيل شرائح واسعة إلى حالة من الفقر والحرمان. هذا النظام يمنع قطاعات واسعة من الناس من بلوغ شروط ازدهار إنساني حقيقي والتنمية، حتى داخل أكثر الاقتصادات تقدماً. “حرية الاختيار” التي يحتفي بها مدافعو الرأسمالية هي في الواقع حرية ناقصة؛ الفوارق الحادّة في الدخل والثروة والفرص تضيق ما يمكن تسميته “الحرية الواقعية”—القدرة الحقيقية للأفراد على تتبع مشاريع حياتهم واتخاذ خيارات حقيقية ذات معنى.
وعد الاشتراكية الديمقراطية ليس بالمساواة فحسب، بل بمزيد من الحرية: إتاحة القدرة لكل فرد على تشكيل حياته بشكل حقيقي. هذا ما تعبّر عنه سياسة زوهران ممداني. سياساته مثل تجميد الإيجارات، وحافلات عامة مجانية، ورعاية أطفال شاملة ليست تدابير اقتصادية فحسب؛ بل أدوات لحرية حقيقية للناس العاديين. حين يذهب معظم الراتب على الإيجار يتقلص الفضاء الحر المتاح للفرد. الاستقرار السكني يمنح الناس أماناً، إمكانية للتخطيط على المدى الطويل، ويخفف من ضغط الخوف من الطرد—وهو عنصر مرتبط بكرامة الإنسان.
في النهاية، الاشتراكية الديمقراطية تدعو إلى اقتصاد يخدم الحياة البشرية والكرامة والحرية، لا اقتصاد يخضع فقط لمنطق الربح وتركيز القوة. سياسات مثل التي يطرحها ممداني تسعى لتحويل هذا المبدأ إلى واقع ملموس في حياة الملايين. النقل العام المجاني يوسّع حرية التنقل في أرجاء المدينة. الحافلات المجانية تجعل التنقل حقاً لا امتيازاً، وتفتح المجال المادي والاجتماعي للحرية نفسها. ورعاية الأطفال الشاملة تحرر الوالدين، وخصوصاً الامهات، من المقايضة المستحيلة بين رعاية الأطفال والمشاركة في المجتمع. عندما يتقاسم المجتمع عبء رعاية الأطفال، يكتسب الجميع الحريّة في العمل والدراسة والمشاركة في الحياة العامة على أساس متساوٍ. هذه السياسات تعيد تعريف الحرية ليس كامتياز القلة للتراكم بلا حدود، بل كقدره مشتركة للجميع تمكنهم من العيش بأمنٍ وفرصٍ وسيطرة على مسارات حياتهم. هذه هي الحرية التي تعد بها الديمقراطية، والتي تحققها الاشتراكية الديمقراطية.
من بين دول الرأسمالية المعاصرة، تقترب الديمقراطيات الاجتماعية في بلدان الشمال الأوروبي (النرويج والسويد والدنمارك وفنلندا) أكثر ما تكون إلى مثاليات الاشتراكية الديمقراطية. لقد ميّزت طبقة عاملة أقوى بكثير، وإصرارها على التزام راسخ بالرفاه الاجتماعي على حساب مصالح النخب الضيقة، هذه الأمم عن أشكال أخرى من الرأسمالية منذ زمن طويل. ومع ذلك، لا تزال فجوات الثروة ملفتة، رغم أن توزيع الدخل هنا أكثر عدلاً مقارنة بأجزاء أخرى من العالم المتقدّم.
يُعد انتخاب ممداني عمدةً لمدينة نيويورك بريق أمل يذكّرنا بأن العمليات الديمقراطية لا تزال قادرة على خدمة الأغلبية لا القلة. حملته التي ارتكزت على مبادئ الإنصاف، والتي سبق أن وُصفت بالطفولية أو السذاجة، نالت ثقة أغلبيّة متنوعة كانت تتوق إلى العدالة والكرامة. هذا النصر، المحقق على الرغم من حملات عنصرية وموجات من الإسلاموفوبيا، يمثل انتصاراً جماعياً.
ومع ذلك، تبقى الانتخابات مجرد بداية. العمل الشاق الآن هو تحويل الوعود إلى سياسات، والأمل إلى تغييرات ملموسة من أجل توزيع اقتصادي أكثر إنسانية ومساواة. الناخبون تحدّثوا؛ والآن حان وقت التنفيذ.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لقناة الجزيرة.