غارات إسرائيلية تهزّ لبنان وتقوّض الأمن والمعتقدات الراسخة

هوجو باتشيغا — مراسل الشرق الأوسط، جنوب لبنان
نهـا شارما/بي بي سي

في مساء الجمعة الماضي، نحو الساعة السابعة، ضربت غارة جوية إسرائيلية سيارة في قرية جنوبية لبنانية تُدعى فرون. كانت السيارة تمر أمام منزل أحد السكان فتحطَّمت، وبقيت آثار الحادث واضحة في الشارع وفي أركان القرية.

هذه المنطقة تمثل قلب الطائفة الشيعية في لبنان، وعلى مدى عقود كانت تحت نفوذ حزب الله كمليشيا وقوة سياسية. في الشوارع تُعلَّق لافتات تحمل صور مقاتلين سقطوا في المعارك وتُقدَّس مواقفهم بـ«شهداء المقاومة».

وصلت إلى فرون بعد ساعة من القصف. فرق الإنقاذ كانت قد أزالت بقايا الضحية الوحيد الذي قالت الجيش الإسرائيلي لاحقًا إنه «إرهابي من حزب الله». المشهد كان صادمًا: آثار انقاض، وأغراض متناثرة، وهدوء مشوب بالحيرة والخوف.

رغم وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في نوفمبر الماضي، انّ القصف الإسرائيلي تواصل تقريبًا يوميًا، تاركًا وراءه شعورًا متزايدًا بانعدام الأمان بين السكان.

«من سيعيننا؟» سألني أحد السكان، محمد مقداد، بينما كان ينظف شرفته بعد أن مرت السيارة قرب منزله. كان صوته يحمل قنوطًا واضحًا: «كان هناك أجزاء من أجساد هنا وفي الأشجار. نحن ضد كل هذا… أريد أن أعيش بسلام. لا أريد أحزابًا، لا أريد أحدًا». لم يذكر اسم حزب الله صراحة، لكن سياق الكلام يوحي بما قصده.

إسرائيل تقول إنها تستهدف بنودًا تابعة لحزب الله وإمكاناته العسكرية التي تعمل على استعادتها بعد أن تضررت بشدة في الحرب. سافرت إلى جنوب لبنان لأرى أثر الحملة الإسرائيلية على الأرض، ولاحظت أن الهجمات كسرت شعور الناس بالأمان، وبدأت تهز حتى مواقف راسخة في مناطق كان حزب الله يحظى فيها بتأييد واسع.

وقف إطلاق النار وضع حدًا لحرب استمرت 13 شهرًا أسفرت عن مقتل نحو 4,000 لبناني و120 إسرائيليًا. الصراع بين الطرفين طويل الأمد، وتفاقم حين بدأ حزب الله بإطلاق صواريخ عبر الحدود بعد يوم من اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة رداً على هجمات قادتْها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023.

الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة وفرنسا فرض على حزب الله سحب مقاتليه وسلاحه من جنوب نهر الليطاني، فيما تراجعت القوات الإسرائيلية عن مناطق دخلتها خلال الحرب، وتم التخطيط لنشر آلاف الجنود اللبنانيين في تلك المناطق التي كانت فعليًا تحت سيطرة الحزب.

بعد عام، لا تزال القوات الإسرائيلية تحتل على الأقل خمسة تلال في الجنوب، وتنفذ غارات جوية وطائرات مسيّرة عبر البلاد على أهداف تقول إنها مرتبطة بحزب الله. وفي ضربة أخيرة قُتل فيها رئيس أركان الجماعة وأربعة آخرون في مبنى في ضاحية بيروت، بحسب ما أعلن الجيش الإسرائيلي.

يقرأ  غارات روسية تتسبب بانقطاع التيار الكهربائي في كييف

قوة «يونيفيل» لحفظ السلام في جنوب لبنان أفادت بأنها رصدت أكثر من 10,000 خرق جوي وبري خلال فترة وقف النار. ووزارة الصحة اللبنانية تقول إن أكثر من 330 شخصًا قتلوا في هجمات إسرائيلية شملت مدنيين.

المجتمعات اللبنانية على طول الحدود لا تزال مدمرة، وآلاف الأهالي ما زالوا مهجرين داخل وخارج مناطقهم من دون معرفة متى — أو إن — سيتمكنون من العودة.

تقول مصادر إسرائيلية إن حزب الله يعمل على إعادة بناء قدراته العسكرية جنوب الليطاني، وأنه حاول تهريب أسلحة وتصنيع طائرات متفجرة صغيرة كبديل للصواريخ. إسرائيل لم تنشر الأدلة التي تقول إنها تمتلكها، لكن الصحفيين في تل أبيب تلقوا إحاطات عن احتمالات تصعيد ضد الجماعة، كما حذر وزير الدفاع الإسرائيلي مؤخراً بأن حزب الله «يلعب بالنار» وأن المسؤولين اللبنانيين يتباطئون.

جوزيف عون جاء إلى السلطة في يناير متعهدًا بتحقيق «الاحتكار الدولة للسلاح»؛ أي نزع سلاح حزب الله. في تصنيف دول غربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة يُعتبر الحزب منظمة إرهابية، لكن داخل لبنان هو أكثر من مجرد ميليشيا: يمتلك تمثيلاً سياسيًا في البرلمان والحكومة، ويقدم خدمات اجتماعية واسعة في مناطق يندر فيها حضور الدولة.

متحدث باسم «يونيفيل» قال إنه لم يرَ نشاطًا عسكريًا واضحًا لحزب الله أو محاولات لإعادة بناء بنى تحتية عسكرية في الجنوب. والحزب بدوره يرفض الاتهامات الإسرائيلية ويصر على أن بنود الاتفاق تنطبق فقط جنوب الليطاني، وأنه لم يعارض عمليات الجيش اللبناني في تلك المنطقة ضد مستودعات سلاحه.

منذ توقيع الهدنة لم تطلق المجموعة النار على إسرائيل، رغم أنها في ديسمبر أطلقت قذائف هاون أصابت قاعدة إسرائيلية في منطقة جبل الدوف/مزارع شبعا بالمحتلّة الجولان، وقالت إنها كانت ردًا على انتهاكات إسرائيل المتكررة.

نشر المتحدث العربي للجيش الإسرائيلي، المقدم أفيخاي أدرعي، تحذيراً عبر وسائل التواصل لبلدة بيت ليف، مزعومًا أن الجيش اكتشف «عشرات البنى الإرهابية» التابعة لحزب الله، وأنه سيتصرف لإزالة أي تهديد. قلقًا من احتمال وقوع هجوم، ناشد السكان ليلًا لتدخل الجيش اللبناني ونشر قواته.

زرتها صباح اليوم التالي. عند السفر إلى الجنوب أخطرنا مكتب الإعلام التابع لحزب الله في بيروت؛ لم يتدخلوا في تغطيتنا. كانت بلدة بيت ليف، التي كان عدد سكانها قبل الحرب نحو ثمانية آلاف، قد تقلصت إلى أقل من ثلث هذا العدد.

يقرأ  محكمة العدل العليا ترفض التماسًا ضد صفقة إطلاق سراح الرهائن

إمام محلي في الثالثة والستين من عمره رفض ذكر اسمه قال إن الجنود اللبنانيين وصلوا برفقة قوات «يونيفيل»، تجولوا لبضع ساعات وغادروا قبل فجر اليوم التالي. الجيش اللبناني امتنع عن تفتيش الممتلكات الخاصة، ربما ليتجنب اتهامات بالتعاون مع إسرائيل؛ وفي بيت ليف لم تدخل القوات المنازل كما قال الإمام.

بينما كنا نتحدث تجمّع حولنا ستة رجال على أرض مسجد دُمّر في غارة سابقة. واحد منهم همس: «على حزب الله أن يقرر: إما يرد على إسرائيل أو يقبل الهزيمة ويفقد سلاحه ونستطيع حينها أن نمضي بحياتنا. لا يمكن أن يستمر هذا». النقد العلني للحزب لا يزال نادرًا، لكن التعب أ pane اهلًا يفضح تساؤلات بدأت تظهر عن إجماع قديم.

من بين المواقع التي أشار إليها أدرعي كان بيت مقابل مبنى البلدية؛ إسرائيل كثيرًا ما تتهم حزب الله بإخفاء ترسانته داخل أحياء مدنية، وسمعت هذا الاتهام من بعض السكان خلال الحرب.

عزّت حمّود، رئيس بلدية بيت ليف، نفى وجود مقاتلين أو أسلحة في بلدته: «لا، لا، لا. لا يوجد هنا مسلحون أو أسلحة. أتحمّل مسؤولية ما أقول». فسألت لماذا جذب قريته الانتباه إن كان الأمر كذلك؟ أجاب: «إما لتخويف السكان وإجبارهم على الانتقال، أو للضغط على الجيش اللبناني ليفرض مواجهة على الناس».

رجل اسمه حيدر أخذني لزيارة منزل عائلته الذي وُسمته، بحسب الجيش الإسرائيلي، كمبنى يُستخدم من قبل الحزب، وهو نفى ذلك. عند المدخل لوحة تذكر أخاه المقاتل الذي قُتل في الحرب. بدا حيدر مقتنعًا أن التواجد الإعلامي قد يوفر له حماية بصورة ما: «ادخل غرفة بغرفة وتحقق بنفسك». ثم قال: «نريد الاستقرار، لا نريد حربًا أو ما يشبهها». قبل أشهر كان من الصعب محادثة أحد هنا من دون أن يقترب أفراد من حزب الله، أما الآن فكان الحديث ممزوجًا بالخوف والإرهاق. ردُّه على سؤال عن المطلوب من الحزب لم يكن مباشراً، اكتفى بالقول: «انتهينا. لقد أرهقنا الأمر».

رغم التحذير، لم تهاجم إسرائيل البلدة.

في خطاب متلفز هذا الشهر، تناول نعيم قاسم، نائب أمين عام حزب الله، هجمات إسرائيل المستمرة محذرًا من أن «للمرء حدودًا»، ومؤكدًا أن الجماعة «لن تتخلى عن سلاحها أبدًا»، واصفًا إياه بأنه «مصدر قوتها». وأضاف: «العدو يريد محو حياتنا ووجودنا، لكننا باقون. سنعيش بكرامة أو نموت بكرامة».

يقرأ  رجل يلقى حتفه أثناء رحلة عملبعد احتجازه داخل سبا فندق خمس نجوم إثر اندلاع حريق

ترسانته العسكرية، التي تفوق قدرات جيش الدولة في بعض الجوانب، ظلت قضية انقسام في لبنان. المعارضون يتهمون الحزب بأنه جرَّ لبنان إلى حروب ويدافع عن مصالح داعمه الرئيسي إيران، ويرون في هذه الفترة فرصة لإجباره على التخلي عن سلاحه. لكن الرئيس عون، وهو رئيس أركان سابق، رفض اللجوء إلى القوة خشية أن يزيد ذلك الانقسام الطائفي ويدفع البلاد نحو حرب أهلية. كما حذر في أبريل من أن «عدم الحذر قد يقود لبنان إلى الهلاك».

دبلوماسي غربي مطلع قال إن السلطات اللبنانية تتعرّض لضغوط متزايدة من إدارة ترامب التي كانت مستاءة من بطء وتيرة الخطوات ودعمت التحركات الإسرائيلية في لبنان. بعض الأطراف ترى أن خطة نزع السلاح هذه «الطريقة اللبنانية» في التعاطي مع الأمور، وليست متيقنة من فاعليتها.

الجيش يتوقع إعلان إتمام نزع سلاح الجماعة في المناطق جنوب الليطاني الشهر المقبل، وفق مسؤول استخباراتي، الذي أضاف أن الأنظار ستتجه بعدها إلى مناطق أخرى حيث لحزب الله حضور قوي مثل الضاحية الشرقية ووادي البقاع الشرقي. ستكون مهمة أكثر تعقيدًا وخطورة من دون موافقة الجماعة، ولا جدولًا زمنيًا محددًا لذلك.

انتقلت بعدها إلى يارون حيث يطل في وسط ساحة البلدة لافتة كبيرة لزعيم حزب الله الراحل حسن نصرالله، الذي، بحسب روايات الأهالي، قُتل بضربة جوية إسرائيلية العام الماضي. من هناك كان ملمح جدار خرساني شيدته القوات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، وهو أمر اعتبرته السلطات انتهاكًا جديدًا لاتفاق وقف النار وخرقًا لسيادة البلاد.

المجتمعات الحدودية لا تزال تئن تحت أنقاض الحرب، وشركاء لبنان الدوليون امتنعوا حتى الآن عن تمويل إعادة الإعمار جزئيًا بسبب الجمود الحاصل بشأن نزع سلاح حزب الله، فيما تفرض القوات الإسرائيلية منطقة عازلة من الناحية العملية. عشرات الآلاف ما زالوا مهجرين بلا أفق واضح للعودة.

على بعد أمتار التقيت نائف الرضا، أحد القلائل الذين بقيوا في يارون بعد الدمار. انتقل إلى هذا البيت مع زوجته وقريب مسن. فوقنا كان صوت طائرة مسيّرة إسرائيلية يدور بلا توقف. قال لي: «يحدث هذا على مدار الساعة. لدينا كل أسباب الخوف. ستغادرون بعد قليل، وسنُترك وحدنا».

كانت شجرة بجوار بيته تحمل علمًا مرهقًا لحزب الله. لم يكن واثقًا من أن الجماعة ستتنازل عن سلاحها. حين سألته عن توقعه للمستقبل قال ببساطة: «ننتظر رحمة الله، ان هذه ليست حياة».

تقرير إضافي: غيث صول ونهـا شارما

أضف تعليق