لم تتحدَّث إسرائيل عن «الحرب» في غزة منذ أسابيع عدة. فثمة وقف لإطلاق النار، أليس كذلك؟ أما حقيقة مقتل أكثر من 350 فلسطينياً، بينهم أكثر من 130 طفلاً، خلال هذا «الوقف» المزعوم — وحقيقة أن قوات إسرائيلية هي التي قتلتهم — فغالباً ما تُهمل كموضوع للنقاش. تبدو حياة الفلسطينيين، لدى كثيرين هنا، أمراً مفروضاً لا يستدعي مبرراً أو حواراً.
طلب العفو الذي قدّمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياحو، مع ذلك، قضى آخر. هذا الطلب بات كل ما يتحدث عنه الإسرائيليون على امتداد الطيف السياسي. لا شيء يعبّر عن عهد نتنياهو أفضل من هذا الجدل المستعر (ابنتي تبلغ الثانية والعشرين بعمرها ولم تعرف بلداً لم يقُدّه نتنياهو). الذين يغيظهم نتنياهو يؤكدون أن ما طُلب ليس «عفواً» بالمعنى القانوني: لرئيس الدولة (حالياً إسحاق هرتسوغ، زعيم سابق للمعارضة) صلاحية عفو عن مدانين، لكن المدانين هم من أصدرت بحقهم محاكم أحكاماً؛ ونتنياهو ما زال خاضعاً للمحاكمة.
سبق وقُبل عفو قبل صدور إدانة مرة واحدة فقط في تاريخ إسرائيل. كان ذلك في فضيحة «الحافلة 300» عام 1984، عندما اقتحمت عناصر من الشاباك حافلة مخطوفة وضربت اثنين من الخاطفين حتى الموت. التحقيق الداخلي في الحادثة تلاعبت به قيادة الشاباك، وبعد عامين أُبرم تسوية غير مسبوقة قضت بالعفو عن أعضاء الشاباك المتهمين — ولم يُدانون — كما سمحت لقيادات الجهاز التي حرفت مجرى التحقيق بالاستقالة دون ملاحقة قضائية، بحجة «ظروف أمنية خاصة». نتنياهو يطلب الآن استدعاء تلك الحيثيات نفسها.
لكن الأمر لا يقتصر على العفو وحده؛ إنه يطلب من الرئيس (وهو منصب ذو طابع شكلي إلى حد كبير) أن يوقف المحاكمة بحجة «الوحدة الوطنية» و«التطورات الهائلة» المرتقبة في المنطقة، حسب تقديره. أنصاره المخلصون يذهبون إلى أبعد من ذلك: بالنسبة إليهم، كان من المفترض ألا تبدأ المحاكمة أصلاً. طالبوا سابقاً بالحصانة أو بوقف المحاكمة بدعوى ضعف لائحة الاتهام. وفي خضم حرب لا تنتهي — أُشعلت بتخطيطه وتوجيهه — يزعمون أن وجوده ضروري على مدار الساعة لقيادة البلد. يصوِّرون المحاكمة على أنها vendetta شخصية تقودها منظومة قانونية فاسدة، نتيجة للإصلاحات القضائية التي بدأها نتنياهو قبل أكتوبر 2023. الحملة الإعلامية والبرلمانية اعتبرت ردود الفعل على طلبه دليلاً قاطعاً على كراهية «الدولة العميقة» لنتنياهو ولإسرائيل بصفة عامة. وردود الأفعال تراوحت بين تحذير وزيرة حماية البيئة إيديت سليمان من أن عدم إيقاف المحاكمة سيدفع دونالد ترامب إلى «التدخل» ضد المؤسسة القضائية الإسرائيلية، وصولاً إلى تمسُّك محاميه الشخصي، أميت حدّاد، بضرورة إيقاف المحاكمة حتى «يتفرَّغ لشفاء الأمة» وقيادتها خلال الأزمة الراهنة، وفق ادعائه، ولعلّ هنا تكمن مفارقة المشهد.
وفي الوسط يقف المعتدلون الدائمون، الذين يراهنون على «الحلول التوافقية» ويؤمنون أن الحقيقة دائماً في الوسط. هؤلاء، الذين يُسمّون بالتقدميين الوسطيين، يدعون إلى صفقة اعتراف أو تسوية سياسية: رحيل نتنياهو من العمل السياسي مقابل التهرُّب من الإدانة. آخرون لا يهمهم الحل بقدر ما يهمهم الإطار العام للقضية، فيدعون إلى مقاربة «معتدلة» تتجاوز الاتهامات بالفساد لتُركز على مسؤولياته عن فشل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبالأخص أداء الجيش والجهات الحكومية. المشترك بين كل هذه السيناريوهات هو السعي إلى «الوحدة» عبر تنازلات متبادلة تُنقص من سقف المطالب الأصلي لدى كل طرف.
القاسم المشترك بين هذه الاتجاهات المتباينة الظاهرية هو أنها تركّز كل أنظارها على نتنياهو وحده. خذ المعتدلين مثلاً: أصدر نتنياهو رسالة استثنائية تطالب بتعليق الأعراف المؤسسية وقوانين الدولة لصالحه، ومبرراتها كانت عبارة عن «مصلحة» و«تطورات هائلة» و«الوحدة الوطنية» — أمور غامضة أو مسيسة. المرء كان يتوقع أن يرفض دعاة «الاعتدال» المتشددون هذا الطلب رفضاً قاطعاً؛ ومع ذلك، في اللحظة التي أُعلن فيها عن الرسالة، قبلها هؤلاء على نحو سريع وحاولوا استيعاب تسوياتهم في ضوئها.
الليبراليون بدورهم لم يكونوا بمنأى. ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر تحدثا في أكبر مسيرة قبل سريان وقف النار، أمام مئة ألف متظاهر. هؤلاء المحتجون اعتبروا أنفسهم من أشد المعارضين لنتنياهو وحوّلدوا خلافاتهم معه إلى نقطة محورية: فشله في إعادة الرهائن. عندما ذُكر اسم نتنياهو، هتف الجمهور ضده. ولمدة ثلاثة أيام — وهي فترة أطول من اهتمام الإعلام الإسرائيلي بطبعته المعتادة لقضايا مثل توثيق إعدامات فلسطينيين — احتلّت مسألة الهتافات عناوين الصحف والبرامج. هل كانت الهتافات لائقة؟ هل كان من الخاطئ توجيهها لرجل شغل منصب رئيس وزراء؟ هل تعكس كراهية شخصية بحتة؟ في تلك الأيام كانت عشرات ومئات الأرواح الفلسطينية تُفقد، وتنهار بنى تحتية واقتصاد، ومع ذلك بدا أن الرأي الليبرالي في إسرائيل لا يريد التحدث إلا عن نتنياهو، ردة الفعل عليه، وموقفيته من الأحداث — كل ذلك على حساب المعاناة الميدانية للناس.
لأنصاره، ليس ثمة خيار آخر. هو «رجلهم»، رمز مقاومتهم للماكينات النخبوية التي يعتبرونها تملك البلاد بحكم الحق. هو، بجرأته ومكاييله، الذي واجه الأعداء وجعلهم في حالة انكسار. هو الذي حرّر إسرائيل من قيود صورة الدولة أمام العالم، بحسب روايتهم: إسرائيل صار لها مطلبها وحدها وأنصارها يصرون أن لا قاعدة أو قانون يجب أن يقيد من يؤدي مهمته التاريخية في إنقاذ الشعب اليهودي. حتى الذين يدّعون النقد ينعكسون عليه في جوهر سياساته؛ لم يُقدّم زعيم معارض يهودي رؤية جوهرية مغايرة لما أنجزه نتنياهو: جميعهم يؤيدون حق إسرائيل في «تدمير» حماس ومهاجمة أي «عدو» بقرار مصيري. يستبعدون نواباً عرباً من «اجتماعات التنسيق» ويتحدثون عن حكومة صهيونية بحتة ستحل محله. قد يُحملونه مسؤولية تراجع مكانة إسرائيل دولياً، لكن لا أحد يتبنى مسؤولية إسرائيل عن دمار غزة، ناهيك عن وصف ما يجري بأنه إبادة جماعية. اثنان من قادة «المعارضة» الذين تبوأا منصب رئيس الوزراء لم يمكثا مجتمعين أكثر من ثماني عشرة شهراً. بينما كان نتنياهو في المنصب قرابة عقدين. صحيح أنه في بعض النواحي شخصية مخادعة وربما مكروهة، لكنه يعرف شؤون الحكم أفضل من أي وريث متوهم.
الخلاصة بسيطة ومريبة في آن: نتنياهو ليس فقط السياسي الأكثر فعالية في إسرائيل؛ بل هو السياسي الوحيد عملياً. إن أُجريت انتخابات في الأشهر المقبلة وبقي بعيداً عن لائحة الادعاء، فتوقعوا أن يعود كرئيس لأكبر حزب ورئيس وزراء. كانت عبارة «لا مثلَه» تُستخدم في الأصل لله. أما اليوم، وعلى امتداد الطيف السياسي الإسرائيلي، فربما لم يعد هناك إلا نتنياهو.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتِب وقد لا تعكس بالضرورة سياسة شبكة الجزيرة التحريرية.