الخدمة العسكرية في أوروبا: إلزامية أم طوعية؟

باتريك جاكسون وإيما برانكاتيسانو — رويترز

مجندون يجرون تدريبات إطلاق نار حي في آهلن بألمانيا الشهر الماضي

باتت بعض أكبر دول حلف الناتو في أوروبا تعمل على تعزيز جيوشها الاحترافية عبر برامج خدمة وطنية تطوعية، في إطار استجابة لإعادة ترتيب أولويات الأمن بعد التداعيات الاستراتيجية لغزو روسيا الكامل لأوكرانيا في 2022 والحرب المستمرة هناك، التي أيقظت مخاوف من احتمال تكرار اعتداء روسي على حلفاء الناتو.

من يجند؟
التجنيد الإلزامي معمول به في تسع من دول الناتو الأوروبية: الدنمارك وإستونيا وفنلندا واليونان ولاتفيا وليتوانيا والنرويج والسويد وتركيا. وفي تركيا — التي تمتلك ثاني أكبر قوة عسكرية في الحلف بعد الولايات المتحدة — يُطلب من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و41 عاماً أداء الخدمة العسكرية لمدد تتراوح بين ستة واثني عشر شهراً. بالمقابل، تستدعي النرويج الرجال والنساء عادةً لفترة نحو 12 شهراً. وكرواتيا أعلنت عزمها إعادة العمل بالتجنيد السنة المقبلة، إذ سيكون إلزامياً للرجال من 19 إلى 29 عاماً الخضوع لشهرين من التدريب العسكري الأساسي.

من جهة أخرى، ثمة دول أعضاء في الناتو تعتمد جيوشاً احترافية دون تجنيد إجباري. المملكة المتحدة، التي تتساوى مع فرنسا أو ألمانيا في القدرة التقليدية (وهي إلى جانب فرنسا الدولة الوحيدة من دول الناتو الأوروبية الحائزة على أسلحة نووية)، تعتمد جيشاً محترفاً وتتميز أيضاً بقبول مجندين قاصرين من سن 16 بموافقة الأهل. دول مثل ألبانيا والتشيك والمجر وإيطاليا ولوكسمبورغ والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا تعتمد بدورها على جيوش محترفة. أما أيسلندا فلا تملك قوات نظامية منتظمة، وإن قامت خفر السواحل ببعض مهام الدفاع.

من يبحث عن متطوعين؟
في بلجيكا، أرسلت وزارة الدفاع هذا الشهر خطابات إلى من هم في السابعة عشرة داعيةً إياهم للتطوع مقابل نحو 2000 يورو شهرياً. تهدف خدمة عسكرية تطوعية تبدأ العام المقبل إلى رفع عدد الاحتياطيين من حوالي 6000 إلى 20 ألفاً. هولندا أطلقت برنامج خدمة وطنية تطوعية في 2023 لتعزيز قدرات جيشها المحترف، وبولندا، التي تمتلك واحداً من أكبر الجيوش في الناتو، أطلقت تدريباً أساسياً طوعياً مدته شهراً واحداً في 2024، فيما أعلن رئيس وزرائها عن خطة لإجراء «تدريبات عسكرية واسعة النطاق لكل بالغ من الذكور» سعياً لتكوين قوة احتياطية شاملة. بلغاريا أدخلت خدمة عسكرية تطوعية حتى سن الأربعين في 2020 لمدة ستة أشهر، ورومانيا تعتزم إدخال خدمة تطوعية لمدة أربعة أشهر في السنة المقبلة.

يقرأ  مامداني يصرّ على وصف ترامب بـ«الفاشي» رغم لقاء ودي في البيت الأبيض

كيف تخطط ألمانيا لبناء «أقوى جيش في أوروبا»؟
ألغت ألمانيا الخدمة الإلزامية عام 2011، لكنها أقرّت مؤخراً قانوناً يقضي بإعادة إدخال خدمة عسكرية على أساس طوعي مع آليات إحصائية وإجرائية حال تدهور الوضع الأمني أو إذا لم يتقدّم عدد كافٍ من المتطوعين، يمكن النظر في شكل من أشكال الخدمة الإلزامية. ينص القانون على إلزام الرجال البالغين 18 عاماً بملء استبيان يبيّن مدى استعدادهم وقدرتهم على الانضمام للقوات المسلحة، ومن يوليو 2027 سيخضعون لفحص طبي لتحديد ملاءمتهم؛ وفي حال اندلاع حرب ستكون هذه البيانات مرجعاً لاستدعاء المجندين المحتملين.

المستشار فريدريش ميرتز صرح بأنه يسعى إلى إنشاء «أقوى جيش تقليدي في أوروبا». الخطة تتضمن توسيع القوى الحالية من نحو 183 ألف عنصر فعّال إلى 260 ألفاً بحلول 2035، بالإضافة إلى 200 ألف من الاحتياطيين. وقد خرج طلاب في نحو 90 مدينة في 5 ديسمبر احتجاجاً على الإجراء، مستخدمين شعارات مثل «لا تنتهِ كطعام مدافع»، واستطلاعات الرأي أظهرت تباين الدعم حسب الفئات العمرية؛ فقد أيد مجرد أكثر من نصف المستطلعين الخدمة الإلزامية بينما ارتفعت المعارضة إلى 63% بين الفئة 18–29 عاماً.

ماذا عُرض على المراهقين الفرنسيين؟
فرنسا ألغت التجنيد قبل نحو 25 عاماً وتضم حالياً نحو 200 ألف عنصر عسكري و47 ألفاً في الاحتياط. تقرر إدخال برنامج جديد يتيح للشباب التطوع لبرنامج تدريب عسكري مدفوع الأجر لمدة عشرة أشهر. سيُطبق البرنامج تدريجياً ابتداءً من الصيف المقبل، موجّهاً في المقام الأول لمن هم في 18 و19 من العمر، مع بدل لا يقل عن 800 يورو شهرياً. الأعداد ستكون محدودة في البداية بـ3000 متطوع العام المقبل على أن ترتفع إلى 50 ألفاً بحلول 2035. الرئيس إيمانويل ماكرون علق قائلاً: «السبيل الوحيد لتفادي الخطر هو الاستعداد له»، مؤكداً ضرورة تعبئة الأمة للدفاع عن نفسها.

يقرأ  كاوس بين أبرز الفنانين المشاركين في معرض فنون الضوء بأبوظبي

استطلاعات الرأي أخبرت بأن غالبية الفرنسيين تؤيد الخدمة العسكرية الطوعية؛ فقد وجدت دراسة إيلاب أن 73% يساندونها، مع تراجع التأييد لدى الفئة 25–34 لكن بقائها في أكثرية نسبتها 60%.

ماذا عن بقية أوروبا؟
دول أوروبية أخرى اتبعت مقاربات متباينة في تعبئة جيوشها. من بين دول الاتحاد الأوروبي غير الأعضاء في الناتو: النمسا تعتمد تجنيداً إلزامياً للرجال بين 18 و35 لخدمة نحو ستة أشهر أو الخدمة البديلة، وقبرص تطبق تجنيداً إلزامياً لكل الذكور فوق 18 بالإضافة إلى بعض من لهم أصول قبرصية، فيما يمكن للنساء التطوع بعد تشريع مؤخراً؛ كلا من جمهورية أيرلندا ومالطا يملكان جيوشاً محترفة. في سويسرا (التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي) يُلزَم المواطنون الذكور بين 18 و30 بالخدمة العسكرية أو الانضمام للدفاع المدني أو أداء خدمة مدنية بديلة. ولقد رفض الناخبون السويسريون الأسبوع الماضي بأغلبية اقتراحاً بتمديد الخدمة الوطنية لتشمل النساء في الجيش أو فرق الحماية المدنية أو أشكال أخرى من الخدمة.

الخلاصة: أوروبا تشهد إعادة توازن بين الاحترافية العسكرية وسياسات التجنيد الطوعي أو الإلزامي كاستجابة لمخاوف أمنية متجددة، مع اختلافات كبيرة في الممارسات والقبول الشعبي بين الدول والفئات العمرية المختلفة.

أضف تعليق