دمشق — حول ساحة الأمويين، أطباق الألعاب النارية تفتتح ليل المدينة بينما يتدلى الأطفال من نوافذهم يلوحون بعلمٍ أخضر وابيض واسود، لونٌ صار رمزا لفرحةٍ ولذاكرةٍ مؤلمة معاً.
قبل يومين من الثامن من ديسمبر — ذكرى التحرير للعاصمة والبلاد — بدأ الناس يتجمّعون في الساحة مبكراً، موجات بشرية تملأ الشوارع والميادين.
من بين الحشود، وقف أبو تاج، ثلاث وعشرون عاماً، متمعناً بالمشهد. قبل عقد غادر قريته في ريف حلب بعدما دُمر منزله في قتالٍ بين النظام وقواتٍ معارضة. سار إلى دمشق ثم بيروت، ومنها طار ليلتحق بأبيه في السعودية. بعد عشر سنوات من الغربة — ثماني سنوات في السعودية وسنتان للدراسة في مصر — قرر العودة إلى سوريا. وصل قبل أسبوع تقريباً من احتفالات استحضرت عملية اقتحام دمشق التي أجبرت بشار الاسد على الفرار إلى موسكو في ساعةٍ مبكرة من الصباح.
في الجمعة الأخيرة قبل الذكرى، صلّى أبو تاج في الجامع الأموي ثم هبط إلى ساحة الاحتفال ليتفرّج على مهرجان الناس. قال مبتسماً لِـالجزيرة: “ثقافة البلد الآن للشعب”، وكان الفرح واضحاً على محياه.
تنفُّس الصعداء
قبل عام، انهار حكم آل الأسد، ومعه انقضى جهاز بوليسي قاسٍ اشتهر بالتعذيب والاختفاء القسري. انهزام النظام أعاد للناس نفساً عميقاً لم يشعروا به منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970. الأيام الأولى بعد التحرير تميّزت بمزيج من النشوة والخوف — النشوة بفتح باب الحرية، والخوف من فراغ السلطة وما سيخلفه.
المراقبون ساقوا لعقلياتهم أمثلة العراق بعد الغزو الأميركي وليبيا بعد سقوط القذافي. وقلةٌ توقّعوا، بالنظر إلى تاريخ العقوبات القاسية، ان تُرفع العقوبات الأميركية عن سوريا خاصة مع وجود أحمد الشراء في قيادة الحكومة الجديدة، الرجل الذي كان عليه مكافأة من الولايات المتحدة في زمنٍ سابق.
لكن الفرح لم يخلُ من مأساة: شهدت الساحل موجات من العنف الطائفي في مارس ثم تجددت التوترات في السويداء في يوليو، حيث اتّهمت قوىٌ يُقال إنها مقربة من الحكومة بإشعال النزاعات وشن عمليات انتقامية واستهداف أقليات. وشهدت حمص حادثةٌ أخرى كادت تزعزع استقرار المدينة قبل أن تتدخل السلطات لتهدئة الأوضاع.
الأخضر والأبيض والأسود
قبل أيام من توافد الجماهير إلى ساحة الأمويين، بدا جلياً كم مثّل إسقاط النظام لحظة فاصلة في حياة كثير من السوريين. العلم الأخضر والأبيض والأسود يتكرر على الجدران والواجهات. أمام الجامع الأموي، طُليت وجوه الأطفال بالألوان العمودية للخلفية الوطنية، وفي ساحة المرجة عرض بائعون حقائبٍ من الأعلام لبيعها أو توزيعها.
عمران، شاب في الثانية والعشرين من دير الزور، جلس في ساحة المرجة يدخن الشيشة مع أخيه الأصغر بهاء الدين ومع والدته، بعد عودته حديثاً من لبنان. أخبرنا أنه لم يرَ والدته منذ تسع سنوات وأنه ينوي الذهاب إلى ساحة الأمويين في الثامن من ديسمبر ليحتفل معهم. “سنفرح كثيراً، الحمد لله” هكذا قال ببساطة.
بينما تكتسي معظم أحياء المدينة بالأعلام والزينة، تظل ساحة الأمويين مركز الاحتفال الحقيقي. بدأت التجمعات بعد ظهر الجمعة، آلاف الشبان والفتَيات في شاحنات صغيرة ودراجات نارية اتجهت إلى الدوار التاريخي، حيث لا يزالُ أثر الهجوم الذي استهدف وزارة الدفاع في يوليو مرئياً.
أمل
في الدوار، وقف عبدالعزيز العمري، واحد وعشرون عاماً من مخيم اليرموك، بجانب صديقين يلوحان بعلمَي سوريا وفلسطين على عصا طويلة. قال: “جئنا لنحتفل بذكرى التحرير”. وأضاف وهو يبتسم: “كنا مظلومين، لكن الآن انكشف الحزن”.
استمرت الاحتفالات مطلقات الأبواق والمتفجرات النارية حتى ساعات الفجر الأولى. هطلت أمطار رعدية في ظهر السبت، وتتوقع النشرات استمرار الأمطار يوم الأحد مع تحسّن الجو المتوقع أن يعود يوم الاثنين، موعد الذكرى الرسمي.
سيحضر الكثيرون وهم يحملون ذاكرة سنوات العذاب تحت حكم الأسد، ومعها أملٌ رقيق بأن تكون الأيام المقبلة أقل قساوة. وفي ساحة الأمويين أمس، قالت رحمة الطحا، محامية، إن الأيام الأولى بعد التحرير كانت تفتقر للأمن، لكنها لاحظت تحسناً تدريجياً خلال العام الماضي: “كل شيء أفضل، وكل شهر نرى أموراً جديدة”. ختمت كلامها بكلمات اختصرها كثيرون في وجوههم وفي ألسنة الحاضرين: “هناك أمل”.