عندما ينتقل زهران ممداني، العمدة المنتخب لمدينة نيويورك، إلى قصر غراسي في كانون الثاني/يناير، سيغادر الشقة المتواضعة الخاضعة لضوابط الإيجار في كوينز التي سكنها لسنوات عدة. للمراقبين، قد تبدو هذه الخطوة متناقِضة مع خطاب سياسي يقدمه كرجل يساري ديموقراطي ترشّح على منصة عدالة سكنية.
أُنتخب ممداني في ظل أزمة سكن حادة تواجه المدينة: بدلات إيجار قياسية ومعدلات شغور عقاري من أدنى النسب على مستوى البلاد. بنى حملته على تجميد الإيجارات وتوسيع خيارات الإسكان الميسور، ولذلك تثير استقراره المؤقت في قصر رسمي تساؤلات حول الاتساق بين الموقف السياسي والحياة الشخصية.
ما هو قصر غراسي؟
قصر غراسي هو المسكن الرسمي لعمداء مدينة نيويورك منذ عام 1942. بيت خشبي مصبوغ باللون الأصفر على الطراز الفدرالي، بُني عام 1799، ويقع داخل حديقة كارل شورتز في الجانب الشرقي العلوي من مانهاتن. وفقاً لصندوق المنازل التاريخية، صُمِّم أصلاً كفيلا ريفية مكونة من طابقين تطل على نهر إيست.
يضم المنزل الرئيسي، بحسب الوصف الشائع، خمس غرف نوم وخمس حمامات، مع مواقد تاريخية وأسقف مرتفعة. واليوم يشمل المجمع الهيكل الأصلي المكوَّن من طابقين إضافة إلى جناح للفعاليات أُضيف في ستينيات القرن العشرين؛ ويقُدر إجمالي المساحة بنحو 12 ألف إلى 13 ألف قدم مربعة (أي نحو 1,200 متر مربع)، تحتوي غرف استقبال رسمية وغرف طعام وغرف نوم ومساحات للمهام الرسمية.
المبنى مملوك للمدينة ويُستخدم كسكن رسمي يُتاح لكلِّ عمدة قادم.
لماذا سُمّي بالقصر؟
يحمل المنزل اسم آرتشيبالد غرايسي، تاجر شحن اسكتلندي-أميركي بنى المبنى عام 1799 في قطعة أرض كانت مقرّاً ريفياً لعائلته، وكانت آنذاك خارج حدود المدينة. رغم أن غرايسي خسر الملكية لاحقاً بسبب ضائقة مالية، ظل اسمه مرتبطاً بالمكان على مرّ العقود، واستحوذّت المدينة على العقار في نهاية القرن التاسع عشر.
استحوذت مدينة نيويورك على الملكية في 1896 ودمجت الأرض المحيطة فيما صار لاحقاً حديقة كارل شورتز. في العقود التالية خدم المبنى أغراضاً عامة متنوعة، منها استخدامه مقراً مؤقتاً لمتحف مدينة نيويورك، بحسب سجلات الصندوق والهيئة المحافظة على القصر.
في 1942، ضغط مفوض حدائق نيويورك روبرت موس على العمدة فيورييلو لا غارديا لتعيين البيت سكناً رسمياً للعمدة، إذ لم تكن للمدينة آنذاك مسكن رسمي للعمداء. رأى موس في ذلك فرصة لابتداع مقر مدني يليق بمثيلاته التنفيذية في مدن أميركية كبرى أخرى. وفي 1966 أُضيف جناح سوزان إي. واغنر كامتداد مودرن لاستيعاب الاستقبالات والاجتماعات الكبيرة.
منذ 1981 يُدار المبنى عبر شراكة بين القطاعين العام والخاص تمول صيانته وتُنظّم الجولات العامة. في 2002 أجرى عمدة نيويورك آنذاك تحديثات داخلية وخارجية لزيادة إمكانية وصول الجمهور إليه، ومنذ ذلك الحين صار يُشار إليه أحياناً باسم «بيت الشعب».
هل عاش جميع العمداء فيه؟
لم يصبح القصر المسكن الرسمي إلا في 1942 عندما انتقل لا غارديا إليه. ومنذ ذلك الحين سكنه معظم العمداء، منهم إد كوتش، ديفيد دينكينز، بيل دي بلاسيو وإريك آدامز. الاستثناء الأبرز كان مايكل بلومبرغ، الذي فضّل البقاء في منزله الخاص في الجانب الشرقي العلوي طوال ولاياته الثلاث واستخدم قصر غراسي للحفلات والفعاليات فقط، وفق تقارير إعلامية أميركية. بعض العمداء وزعوا وقتهم بين القصر ومساكنهم الخاصة، مثل إد كوتش الذي احتفظ بشقته في غرينتش فيليدج، وعائلة رودي جولياني التي بقيت جزئياً في منزلها في الجانب الشرقي.
متى سينتقل زهران ممداني؟
سيتسلم ممداني (34 عاماً) منصبه في كانون الثاني/يناير. أعلن أنه وزوجته، الرسامة راما دواجي، سيغادران الشقة المستقرة إيجارياً في استوريا التي عاش فيها منذ 2018 وينتقلان إلى قصر غراسي. لا يملك الزوجان أطفالاً.
قال ممداني إن القرار اتُّخذ انطلاقاً من اعتبارات تتعلق بسلامة عائلته والحاجة للتركيز الكامل على تنفيذ «أجندة القدرة على تحمل السكن» التي شكّلت نواة حملته الانتخابية. واصفاً الانتقال بأنه استخدام للمسكن بالطريقة التي خُصّص لها — مورد مدني يمكّن العمدة من أداء واجباته الرسمية بشكل أكثر فاعلية. وقد ذكرت وسائل إعلام أميركية أن قيمة القصر تقدر بنحو 100 مليون دولار، وهو رقم استُخدم في النقاش العام حول مسألة التوافق بين سكنه السابق والسياسة السكنية التي يطرحها.
أثار الانتقال أيضاً تساؤلات عن مدى انسجامه مع حقوق المستأجرين وأجندة الإسكان الميسور، لاسيما وأن ممداني ربط سابقاً عمله السياسي بحقيقة أنه كان يعيش في شقة خاضعة للضوابط الإيجارية.
في بيان ودّع استوريا بقوله: «شكراً لاستوريا على إظهاركم أفضل ما في مدينة نيويورك. قد لا أعيش في استوريا بعد الآن، لكن استوريا ستظل دائماً حيّاً بداخلي وفي عملي».
أهمية القصر السياسية والاجتماعية
لم يكتفِ قصر غراسي بكونه مسكناً رسمياً؛ بل صار مسرحاً للاحتجاجات المتكررة، لا سيما المتعلقة بحقوق السكن وقضايا طالبي اللجوء والمهاجرين، مما يجعله رمزاً مركزيّاً في معارك المدينة المستمرة حول الولوج إلى السكن والعدالة الاجتماعية. مواجهات واحتجاجات حول الهجرة وسياسة المأوى في نيويورك
في أغسطس 2023 تصادمت مسيرة معادية للهجرة مع محتجين مناصرِين لحقوق المهاجرين أمام الأبواب. المشاركون في المسيرة هتفوا بشعارات مثل: «لا للمهاجرين في لونغ آيلند! نحن ندفع ضرائب عقارية مرتفعة!».
في تلك السنة، عندما سعى عمدة نيويورك الحالي إريك آدامز إلى إلغاء قانون «الحق في المأوى» الذي يضمن ملاذاً بمواصفات أساسية للمشردين، شهدت المدينة احتجاجاً واسعاً واعتصاماً نومياً أمام قصر غراسي في نوفمبر. وفي مارس 2024 توصل آدامز إلى اتفاق قانوني مع دعاة حقوق المشردين نصّ على أن المهاجرين المشردين وطالبي اللجوء يمكنهم البقاء في الملجأ لمدة أقصاها 30 يوماً.
ما مدى حدة أزمة السكن في مدينة نيويورك؟
كانت سياسة السكن محور حملة ممداني الانتخابية. ودعا إلى تجميد الإيجارات لعدة سنوات على نحو يقضي بحفظ نحو مليون شقة خاضعة لتنظيم الإيجار في المدينة، مع تشديد حماية المستأجرين، وزيادة الإسكان الاجتماعي، وفرض قيود على الشراء المضاربي من قبل المالكين.
أظهر مسح الإسكان والفراغ السكني الذي استشهد به تقرير مجلس توجيه الإيجارات للعام 2025 أن معدل الفراغ الإيجاري يبلغ فقط 1.41%، أدنى بكثير من مستوى 5% الذي يتيح للدولة تفعيل صلاحيات تنظيم الإيجار. وترجم التقرير هذا الرقم إلى توفر نحو 33,000 وحدة شاغرة فقط من أصل ما يقرب من 2.4 مليون وحدة للإيجار على مستوى المدينة.
وتعكس بيانات السوق ارتفاع الإيجارات بشكل صارخ. فقد وضع تقرير Realtor.com الربع سنوي لعام 2025 متوسط الإيجار المطلوب على مستوى المدينة حوالي 3,600 دولار شهرياً. أما تقرير سوق الإيجار لشركة Douglas Elliman في أغسطس 2025 فبيّن أن شقق غرفتين تطرح عادة بأسعار تتراوح بين 5,000 إلى أكثر من 5,500 دولار في مهاهاتن، وبين 3,200 و4,000 دولار في أحياء عديدة من بروكلن وكوينز.
في كل من أحياء المدينة الخمسة تشكّل الإيجارات نسبة كبيرة من متوسط الدخل. ففي مهاهاتن، حيث يبلغ متوسط الدخل نحو 5,100 دولار شهرياً، يصل متوسط إيجار شقة من غرفة واحدة إلى 4,200 دولار. أما في بروكلن فيبلغ متوسط الدخل نحو 3,400 دولار مقابل إيجار متوسط لشقة من غرفة واحدة حوالى 2,800 دولار.
في المقابل، تتبع مدن تعطي الأولوية للسكن الميسور مثل فيينا نهجاً مختلفاً جذرياً: تملك البلدية وتدير مئات الآلاف من الشقق وتحافظ على إيجارات منخفضة جداً مقارنةً بسعر السوق. وذكرت تقارير إعلامية أن شقة عادية مكوّنة من غرفتين في فيينا يمكن استئجارها بأقل من 600 يورو (حوالي 697 دولاراً) شهرياً، بينما تُعرض وحدات مماثلة في نيويورك بخمس إلى ثماني مرات هذا المبلغ.
(المصادر: تقارير وإحصاءات سوقية وإعلامية)