بعد عام على سقوط نظام الأسد صحفي يعود إلى دمشق — الحرب السورية

دمشق، سوريا — في صباح الخامس من ديسمبر 2025، نقلني تاكسي عبر الحدود بين لبنان وسوريا. كانت الرحلة هذه المرة مختلفة عن عبوري الأول في الساعات الأولى من التاسع من ديسمبر 2024، بعد يوم واحد فقط من فرار بشار الأسد إلى موسكو.

في ذلك اليوم، كانت عربات الجيش السوري متروكة على أطراف الطريق المؤدي إلى دمشق، وعلى كتف الطريق انتشرت بزّات الرجال الذين كانوا يقودونها كما لو تُركت من أمامهم. اليوم، اختفت تلك المشاهد: لا أثر للمركبات المهجورة ولا لصور بشار ووالده حافظ التي شُوهت، وحتى اللافتة التي صوّرتها قبل عام وكتبت عليها «سوريا الأسد ترحب بكم» لم تعد موجودة.

عدت إلى دمشق لتغطية الذكرى الأولى لسقوط النظام، فالتجمعات في ساحة الأمويين باتت احتفالية. هذه المرة كان تنظيم الحشود من قِبل رجال مسلّحين بدلاً من رمي الطلقات في الهواء، والاستبدال واضح: سيارات الدفع الرباعي الطينية التي نقلت قوى مناوئة للأسد إلى المدينة حلت محلها مركبات أمنية جديدة تحمل شعار الدولة المعتمد من حكومة أحمد الشراع.

الكثير يمكن أن يتغير في عام واحد. بعد السقوط مباشرة، شعر السوريون وكأن حملاً استمر نصف قرن قد رُفع عن صدورهم — ذلك الحمل الذي ضغط على أضلاعهم وأمعائهم وسلبهم إحساس الإرادة. لسنوات، تجنّب كثير من السوريين، حتى في المهجر، الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية أو التقاط صورهم خوفاً من تبعات على أنفسهم أو ذويهم في الداخل. لكن بعد سقوط الأسد، رغِب الكثيرون في التعبير عمّا كتموه طويلاً.

ثلاثة أيام قبل الذكرى، اجتمع الناس في ساحة الأمويين، لوّحوا بالأعلام وأشعلوا الألعاب النارية، وتحدّث كثيرون عن فرحتهم بالاحتفال المرتقب. قال معتصم، طالب يبلغ من العمر 19 عاماً: «الوضع جيّد، يحفظ الله الحكومه». أنهينا حديثنا وبدأت بالحديث مع طالب آخر، ثم اقترب معتصم وطلب عدم ذكر اسم عائلته في التقرير. رفض صديق له المقابلة أيضاً، ليس لسبب محدد، بل لأنه شعر بارتياح أكبر هكذا.

وعندما علم أحد الموجودين أن زميلي من كندا، قال له إن سوريا جيدة للزيارة لأسبوع أو أسبوعين، ولكن الأفضل أن يعيش الإنسان في كندا. كثيرون في الساحة عرفوا حكم عائلة واحدة فحسب، وصغار السن الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً عرفوا رجلاً واحداً فقط يحكم. طرد تلك القيود النفسية ومعالجة صدمات سنوات الانتفاضة والقمع العنيف ستستغرق وقتاً، وكذلك إعادة بناء البنية التحتية وتحسين الخدمات.

يقرأ  باكستان والهند: كم تبلغ تكلفة الكوارث الطبيعية على الاقتصاد العالمي؟

تحدّثت مع أصحاب محلات في سوق الصالحية والحمدية، وقالوا إنهم لم يعودوا يخشون مداهمة الأجهزة الأمنية لمتاجرهم، لكن النشاط التجاري لم يتحسن بشكل كبير بعد. تذهب الآمال إلى رفع العقوبات الأميركية، بما في ذلك إلغاء قانون قيصر مؤخراً، ليلعب دور دفعة اقتصاد، لكن الواقع حالياً أن كثيرين يعيشون يومياً أو يعتمدون على التحويلات من الخارج.

قضية المخفيين ما زالت جرحاً لم يندمل. انتُزعت صور المفقودين التي عُلّقت في ساحة المرجة بدمشق. قبل عام، توجّهنا إلى سجن صيدنايا شمال المدينة، أوقفنا السيارة على بعد كيلومترات بعد سماع دوي غارات جوية في البعيد وتابعنا سيراً على الأقدام. هناك وجدنا عشرات الآلاف يبحثون عن أي أثر أو همسة أو بقايا لأحبائهم الذين اختفوا في شبكة السجون السورية القاسية التي بنى عليها نظام الأسد حكمه لعقود. أثناء عودتنا، سألنا القادمون عما إذا كان لا يزال هناك سجناء بداخل السجن؛ لم يكونوا يعلمون بعد أن كل السجناء المتبقين قد أُطلق سراحهم، وأن الشائعات عن زنزانة سرية تحت الأرض كانت شاهداً على عمق الانحراف الإبداعي الذي بلغته آلة القمع.

ذلك النظام رحل. ولم أرَ أحداً في دمشق يرغب في عودة الأسد. هذه الحقيقة بحد ذاتها أحدثت فرقاً هائلاً لملايين السوريين. لكن مناقشات مع أصحاب محلات ونُدُل مقاهٍ وموظف سابق بفندق وسجناء سابقين وباحثين وطلبة ومهندسين وسائقي تاكسي وأعضاء من المهجر يفكرون في العودة، بيّنت أن مجرد سقوط النظام لن يكفي لإعادة إعمار البلد.

تقدّر البنك الدولي حاجة سوريا إلى 216 مليار دولار لإعادة الإعمار. عشرات المناطق لا تزال تحت الأنقاض، والاقتصاد لم ينتعش بعد، والوعود المالية والسياسية من حلفاء دوليين وإقليميين لم تتبلور بالكامل.

بعد عام، تُرمم بعض الشوارع وتُبدّل زيّات المسلحين المتنوّعة بأزياء سوداء موحّدة تحمل شعارات الدولة، وغطّت طبقة رسمية دمشق. قد يرى كثيرون في ذلك انعكاساً لفرحتهم، لكن تحت السطح لا يزال الكثيرون يعانون.

سوريا لا تزال في مرحلة ما بعد الحرب. رغم تحسّن الكهرباء والبنى الأساسية في بعض المناطق، لا يزال المشي في شوارع أو أزقة مظلمة أمراً شائعاً. أثناء زيارتنا لصديق في حي المهاجرين، نظر إلى الساعة وقال: «ما وصلت الكهرباء اليوم بعد، عم نحصل ساعتين شغّل وأربع طفي». بالطبع، قلّة فقط يشتاقون لأيام حكم الأسد؛ غيابه وحده فتح المجال لعودة آلاف السوريين. يشعر كثيرون بفرصة للمساهمة في إعادة البناء وإعادة تشكيل الوطن. وتشير التقديرات إلى أن نحو ثلاثة ملايين سوري عادوا إلى البلاد خلال العام الماضي. التقيت بضعة أشخاص خلال رحلتي القصيرة.

يقرأ  إيطاليا ستسلم إلى ألمانيا مشتبهًا أوكرانيًا بتخريب أنابيب «نورد ستريم»

عمران، 22 عاماً، عاد قبل أسبوع من لبنانن، حيث كان يعمل في تركيب ألواح شمسية بعد أن غاب عن رؤية والدته وشقيقه الصغير لما يقارب عقداً من الزمن.

أبو تاج، 24 عاماً، عاد بعدما قضى عشر سنوات في السعودية ويأمل أن تلتحق به أسرته قريباً. خلال عشاء قرب باب شركي، ناقش جمع من الشبان بحيوية العام الماضي، والتغييرات التي يتمنونها، وكيف يمكن أن يكونوا جزءاً من تشكيل هذا المسار.

باحثة سورية–فلسطينية عادت من لبنان قبل بضعة أشهر أعربت عن انتقاداتها، لكنها بدت متفائلة بشكل معدي إزاء اتجاه البلد.

وطبعا هناك آخرون، سوريون يعيشون في لندن أو عمّان أو إسطنبول، قالوا إنهم يفكرون في العودة أيضاً. بالنسبة لهم، صار هناك بصيص أمل أخيراً.

انهاء ثقافة الإفلات من العقاب

في 9 ديسمبر 2024 زرت فيلا كانت عائلة الأسد تستخدمها لاستقبال الضيوف. أمام الفيلا صف مرتب من أشجار الفاكهة تحمل الكمكوات.

بينما كان السكان المحليون يدخلون ويخرجون من الفيلا المنهوبة، ويزورون مكاناً كان محظوراً على الجمهور سابقاً، التقط رجل يرتدي سترة جلدية ثمرات الكمكوات من الأشجار وامتص عصيرها، ثم رفع صوته ليعلنه للجميع: «ما أحلاه!»

قد يكون كان يقصد الفاكهة أو لحظة تاريخية بأسرها.

في ذلك اليوم، ولأشهر بعده، كان شائعاً رؤية رجال يرتدون زياً عسكرياً بألوان ونقوش متعددة وهم ينسّقون دوريات في المدينة أو يديرون نقاط تفتيش.

اليوم حلَّ محلّهم رجال بزي أسود موحد. لم تعد الناس تقفز فرحاً وتحتضنهم وتحتفل معهم كما كان سابقاً. لكن على الأقل في دمشق لم يظهر الخوف منهم بصورة علنية.

بالطبع، العام الماضي حمل أيضاً تجارب مختلفة، بعضها قاتم.

أعمال عنف ومجازر واسعة على الساحل في مارس وفي السويداء في يوليو تركت كثيرين من الأقليات لا يثقون بالسلطات. في رحلات سابقة داخل البلاد، بما فيها زيارة للسويداء ليوم واحد في فبراير 2025، وجدت كثيرين من خلفيات أقلية متشككين من أحمد الشراع وحكومته الجديدة. ومع ذلك، عبّر كثيرون عن أمل بأن تتوافق الأفعال المتعلقة بحقوق وكرامة الأقليات مع الكلام الصادر عن القيادة الجديدة وأنصارها.

يقرأ  مرشح شيوعي ومرشح يميني متطرّفيتأهلان إلى جولة الإعادة الرئاسية في تشيلي

في الواقع، أعرب العديد عن استيائهم من الخطاب في أوروبا وأماكن أخرى حول «حماية الأقليات». في مطعم راقٍ بحي أبي رومَانة بدمشق قال لي محامٍ إنه استشاط غضباً بسبب صحيفة فرنسية محافظة وصفته بعد مناقشة آرائه في الوضع السياسي بأنه «محامٍ مسيحي».

في آخر رحلة لي تلاشت كثير من تلك النوايا الحسنة لدى من تحدثت معهم من الأقليات. وكان ذلك واضحاً في دمشق ومناطق أخرى.

«لا أظن الناس يدركون مدى الضرر الذي سبّبته مجازر السويداء لأهاليها»، قال لي أحد غير السوريين يزور المنطقة بانتظام للعمل.

في مقالة يوميات صحفي نشرتها بعد رحلة إلى دمشق وحلب في ديسمبر، أعربت عن تشكيكي في هوس الغرب بحقوق الأقليات حين أغفلوا بوضوح ما كان يحدث تحت حكم الأسد، وأن الشمولية الوحيدة كانت قدرة النظام على اعتقال الناس وتعذيبهم وإخفائهم قسرياً.

«هموم الأقليات حقيقية ولا ينبغي الاستهانة بها، لكني آمل ألا يطغى التركيز على مجموعة بعينها على النضال الأشمل من أجل الحقوق الجامعة التي يطالب بها آلاف السوريين عبر طوائف ومناطق مختلفة»، كتبت حينها.

لا يزال ارتياح كثيرين لرحيل الأسد ملموساً. لكن الطريق نحو حقوق جامعة، للأقليات والأغلبية معاً، ما زال طويلاً ووعر المسلك.

في اليوم الثاني لي في دمشق استلمت رسالة صوتية من رزان رشيدي، المديرة التنفيذية لحملة سوريا. تقود رشيدي وزميلاتها حملة لإعادة الأسد من موسكو لمحاكمة سورية تقودها محكمة خاصة.

قالت: «بعد عام على سقوط نظام الأسد، كناشطين في مجال حقوق الإنسان وشخص عمل طويلاً مع ناجين من فظائع داخل سوريا، شهدت بنفسي مراحل وكيف استُخدمت المساعدات لتجويع المدنيين، وكيف عملنا مع ناجين من هجمات بالأسلحة الكيميائية ومع عائلات المغيبين. ومن المؤلم جداً أن نعلم أن الأسد يعيش ويتمتع بالحرية في موسكو والكثير من مسؤوليه كذلك».

وأضافت: «ما رأيناه في العام الماضي من ثقافة الإفلات من العقاب في أجزاء مختلفة من سوريا — سواء من مرتكبين يصورون جرائمهم أو إنكار العديد من الجرائم التي شهدناها داخل البلاد — يزيدنا إيمانا بضرورة العدالة والمساءلة، ففقط العدالة قادرة على إرساء السلام في هذا البلد الساعي إلى إعادة البناء والنهضة بعد سنوات من الفظائع».

أضف تعليق