المفقارة — جنوب الخليل، الضفة الغربية المحتلة
في المفـقارة، إحدى قرى مسافر يطا، تبدو الليالي مختلفة. فبدلاً من الراحة أو النوم، تتسم الليالي باليقظة والقلق لدى الرجال الذين يحمون قريتهم من اعتداءات المستوطنين القادمين من مستوطنات ومخيمات غير قانونية قريبة.
عند غروب الشمس تبدأ دوريتهم؛ يتجمّعون على تلة مرتفعة تطل على القرية، يجلسون محاطين بإطارات سيارات قديمة رُصّت لتشكّل جداراً يصدّ عواصف الريح الباردة. لكل واحد منهم دور: بعضهم يحمل المشاعل، وآخرون يجهّزون العشاء، ورجل واحد يطبخ شاي المَرْوِي الذي لا يفارق الإناء على النار، يمنحهم الدفء واليقظة طيلة الليل البارد.
ضحكاتهم تخترق الظلام لكنها لا تستطيع إخفاء الخوف الذي يلفّ المكان. «مهمتنا ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة»، يقول أحدهم. «الليل لنا ما دمنا نحرسه».
قصص موصى بها
قرية تواجه وحدها
تسكن المفـقارة نحو 23 عائلة — نحو 220 شخصاً بينهم نحو 50 طفلاً. يعتمد أهلها في معيشتهم على الرعي والزراعة وتربية المواشي. لكن هذه الحياة البسيطة تتعرض يومياً لهجمات من المستوطنين والسلطات الإسرائيلية: هدم المنازل المتكرر، تدمير الأراضي الزراعية، إحراق المساكن، وحتى أعمال قتل.
كانت آخر الضحايا رمزاً للمقاومة، عودة الحثالين، الذي أُطلق النار عليه من قبل مستوطن إسرائيلي. أُصيب آخرون بجروح بعضها بتر للأطراف في هجمات متفرقة.
من هذا الخطر المستمر قرر أهل القرية تشكيل «لجنة حراس الجبل» — مجموعة من نحو ثلاثين شاباً يقضون الليل على التلة المطلة على المستوطنات والقرية، يتناوبون الحراسة من الغروب حتى الفجر. سمّيت اللجنة تيمّناً بموقعها المرتفع الذي يمكنهم من رصد التحركات الليلية وتنبيه الأهالي.
تتوزع المهام داخل اللجنة: فريق مراقبة استطلاعي، وفريق لإدارة الأضواء والإنذار، وفريق يقوم بإطعام الحراس وتحضير المشروبات الساخنة، وفريق دعم. ويعزّز كبار السن هذا الجهد بمرورهم حامليّن فناجين القهوة وبذور عباد الشمس للحراس — عناصر تمثل قدرها التضامن والصمود بقدر ما هي وجبات خفيفة.
حميدة: خوف أم أمل أم معاً
حميدة علي حمّادة، أم تبلغ من العمر 51 عاماً، لديها تسعة أولاد تتراوح أعمارهم بين مفيد (33 سنة) وبَيّان (20 سنة). تسكن مع زوجها قاسم حمّادة (53 سنة) في بيت من الطين في القرية.
«كانت الحياة في المفـقارة حلوةً وبسيطة… كنا نعيش بأمان وكانت الأغنام ترعى بحرية، حتى دخل الخوف حياتنا»، تقول حميدة وهي تطل من نافذتها نحو التلال.
تتغير الحياة منذ 7 أكتوبر 2023، تروي كيف يخترق المستوطنون البيوت بإلقاء الحجارة والشتائم، يهددون السكان بالقتل والتهجير، ويطلقون مواشيهم على أراضٍ فلسطينية لتدمير المحاصيل والأشجار — أراضٍ كثير من أصحابها محرومون من الوصول إليها.
تصف حادثة اقترب فيها أربعة مستوطنين من منزلهم بعد سيطرتهم على مغارة مجاورة وأخرجوا العائلة التي كانت تسكنها. «قالوا لزوجي: عليك أن تغادر، هذه ليست أرضاً فلسطينية»، تتابع. «الفكر بالحياة اختفى… كل شيء صار شقاءً، بلا راحة ولا أمان».
تحلم حميدة بزوال خطر المستوطنات، وأن يعيش أحفادها بأمان ويذهبون إلى مدارسهم بلا خوف. لجأ السكان إلى تدابير حماية بسيطة لمنازلهم: أسلاك شائكة على النوافذ وكلاب في الساحات تنبح عند اقتراب الخطر. لكنها تؤكد: «لو لم تكن لجان الحراسة لما نَمنا ولو لغمضة عين… إنهم خط دفاعنا الأول».
اليد التي تطعم الحراس
تشارك حميدة بدورها في مساعدة الحراس — كل ليلة تطلب من امرأة في القرية تُعد حلويات ومحاوِية منزلية إرسال بعض مما تعدّه إلى الشبان فوق التلال. «هم يحموننا ونحن نرسل لهم الحلوى… على الأقل نشاركهم شيئاً صغيراً يخفف عنهم»، تقول.
ترعرعت حفيدة حميدة أسالة (11 سنة) على قدر أكبر من الخوف منه من اللعب. وتشير إلى حفرة في الأرض قائلة: «عندما يهاجم المستوطنون القرية، نركض إلى هنا… إلى المغارة». تصفها كملاذ تحت الأرض تختبئ فيه هي وإخوتها بعيدا عن النوافذ والأبواب. «في كوابيسي أراهم يهاجموننا… أتمنى أن أعيش طفولتي وأذهب إلى المدرسة بلا خوف».
على أطراف المفـقارة يقف قاسم حمّادة يتأمل امتداد المستوطنات الجديدة التي تحاصره من كل جانب. قبل 7 أكتوبر 2023 كانت مستوطنتا أفigail و”حفات معون” تحيطان به. اليوم التوسع الاستيطاني صار جليّاً مع إقامة خمس بؤر استيطانية جديدة غير قانونية حتى وفق القانون الإسرائيلي.
يعيد قاسم سرد ما أخبرته زوجته: «جاءوا بعد أن استولوا على مغارة قرب بيتي وهددوني بالطرد. قلت لهم: تريدون أن أرحل؟ كيف؟ هذه أرضي موروثة عن أبي وجدي… لن أرحل. سأموت هنا». ويضيف أن لجنة الحماية حسّنت الوضع قليلاً. «أشعر ببعض الأمان». يكاد المسنون والنساء ينامون بطمأنينة نسبية… لكننا بحاجه إلى خيمة تحمي الشبان من قسوة برد الشتاء.
يتولى بعض الحراس إعداد الطعام للمَجْمُوعة، ليبقوا الجميع قادرين على الصمود طوال الليل.
عيون الساهرين في الليل
يتلألأ نور كشاف في يد معاذ الحمّمدة، 32 عاماً، فلاح وأب لثلاثة أطفال، وأحد أبرز أعضاء لجنة الحماية. “نحن نسهر طوال الليل لأن الاعتداء أثناء النوم أخطر بكثير من الاعتداء أثناء اليقظة”، يقول وهو يرمق التلال بنظرات متحفّزة.
يقدّر أن تواجد حراس الجبل خفّض وتيرة الهجمات بأكثر من 80%، لأن المستوطنين لم يعودوا يجدون القرية بلا رقابة. وعندما يقع اعتداء، تتحرّك اللجنة سريعاً: فرقة تهرع بالأطفال والنساء إلى كهوف تحت الأرض، وأخرى تتجه إلى حظائر الغنم لحماية المواشِي، وثالثة تواجه المستوطنين حتى تصل التعزيزات.
“كلنا نعرف أن المستوطن لا يرحم،” يقول معاذ. “لكن الفلسطيني لن يتخلى عن أرضه. حتى الأطفال هنا يعلمون أن الأرض هي الحياة.”
قرب موقع الحراسة، يجثو جلال العمور، 47 عاماً، إلى جانب النار ويحرّك قدرًا كبيرًا، تفوح منه رائحة كبد الدجاج الذي حضّره. المكان الذي يطبخ فيه كان بيته — يشير إلى كهف قريب تزيّنه نجمة داود ويعلوه علم إسرائيلي. “وُلدت في هذا الكهف، عشت فيه مع أبي وجدي… حتى جاء المستوطنون وطردونا قسراً ودمروا كل شيء. عندما اشتكينا للشرطة قالوا: ‘إنها منطقة عسكرية مغلقة.’”
يطبخ العمور للحراس كل ليلة. “نختار كل يوم طبقاً مختلفاً، محاولين إبقاء المكان دافئاً… النار والدخان باتا ما تبقى من عبق الديار.”
مع اقتراب الفجر تتلاشى الأضواء على التلال. تعلو الابتسامات الوجوه المرهقة مع أول خيوط الصباح؛ يعود الشبان إلى بيوتهم، بعضهم إلى غنمهم، والبعض الآخر لقيلولة قصيرة قبل يوم جديد. بين طلوع القمر وغروب الليل، أنجز حراس الجبل واجبهم، ساهرين لتحمي قرية تصرّ على البقاء في أرضها — اغلبهم يغادرون مع بزوغ الفجر حاملين على ظهورهم أعباء ليلٍ لا ينسى.