نيودلهي — فيلم بوليوودي جديد من نوع التجسس السياسي يثير الإعجاب والجدل على حد سواء في الهند وباكستان، إذ يعيد سرد فصولاً متوترة من علاقة الجارين في جنوب آسيا بزاوية درامية حادة.
غارقٌ في قُطب سيبياي داكن، صدر فيلم “دهورندهر” في دور العرض الأسبوع الماضي وهو عمل يمتد لقرابة ثلاث ساعات ونصف، يصطحب المشاهد في رحلة عنيفة ودامية عبر عوالم المافيا وعملاء المخابرات، على خلفية التوترات المتجددة بين نيودلهي وإسلام آباد. عرض الفيلم جاء بعد أشهر قليلة من اندلاع اشتباكات في مايو إثر هجوم على موقع سياحي شهير في باهالجم بحكم الهندي لكشمير، اتهمت الهند باكستان بالضلوع فيه، فيما نفت إسلام آباد أي دور لها.
منذ تقسيم شبه القارة في 1947 وتأسيس باكستان، خاض الجاران المسلحان النوويان أربع حروب، ثلاث منها دارت حول قضية كشمير المتنازع عليها.
في صلب هذا العمل يقف نجم الشاشة رانفير سينغ بدور جاسوس هندي يتسلل إلى شبكات وصفها صناع الفيلم بأنها “عصابات وإرهابيون” في كراتشي. منتقدو الفيلم يرون أن قصته مشوبة بصياغات قومية متطرفة وتقديم مغلوط للتاريخ، وهو اتجاه قالوا إنه يتبلور في بوليوود المعاصرة.
أولاً: البناء والسرد
أخرجه أديتيا دار، ويستند السرد إلى فصل سري من سجلات المخابرات الهندية (R&AW)، فنياً يركز على مهمة عبر الحدود يقوم بها عميل واحد على أرض الخصم لمنع تهديدات تصيب الأمن القومي الهندي. يؤدّي سينغ دور الجندي الميداني القاسي المسؤول عن تفكيك شبكة “إرهابية” من الداخل، ويقابله خصم قوي يجسده سانجاي دت لتمثيل ما وصفه الفيلم بالمؤسسة الباكستانية، إلى جانب ممثلين آخرين أبرزهم أكشاي خاما بدور زعيم عصابة، وR. مادهافان في أدوار ضباط مخابرات ومخططين استراتيجيين يقيمون تحركات جيوسياسية معقدة من نيودلهي. بنيوياً تتبع السيناريو مسار القط والفأر الكلاسيكي، لكن تحت لياقة المشاهد الحركية العالية، أثار العمل سجالاً حاداً حول تفسير أحداث تاريخية وشخصيات محورية.
لماذا أثار الفيلم حفيظة باكستان؟
رغم استمرار شعبية سينما بوليوود في باكستان، فإن تصوير باكستان بوصفها العدو المطلق للهند ليس حديث العهد في الأفلام، وبخاصة في أفلام التجسس. ما أثار حنق كثيرين هذه المرة هو تمثيل مدينة كراتشي الساحلية الكبرى، ومناطقها المكتظة مثل حي لياري، الذي وصّفته الانتقادات بأنه صُوّر بصورة استعمارية نمطية ومجتزأة لا تمثّل واقع المدينة. ندى كرماني، أستاذة علم الاجتماع في جامعة لاهور للإدارة والعلوم، قالت لوسائل الإعلام إن تمثيل الفيلم “قائم على الخيال بالكامل. لا يشبه كراتشي ولا يعكسها بدقة إطلاقاً.” كرماني، التي أعدّت فيلماً وثائقياً عن أثر العنف الطائفي في لياري، شدّدت على أنه بالرغم من أن كراتشي شهدت فترات عنف عنيف، فإن اختزال المدينة إلى عنف فحسب يعدّ خطأً جوهرياً، وأن الفيلم أخطأ في كل شيء يخص بنية المدينة وثقافتها ولغتها — وحتى في طريقة التصووير والحياة اليومية.
في لاهور أيضاً، رفع عضو من حزب الشعب الباكستاني شكوى قضائية في محكمة كراتشي، متهماً صناع الفيلم باستخدام صور الزعيمة الراحلة بينظير بوتو دون إذن، والاحتجاج على تصوير قادة الحزب كأنهم يدعمون “الإرهاب”. منتقدون آخرون لاحظوا أن الفيلم وضع عصابات لياري في قلب توترات جيوسياسية مع الهند رغم أن نشاط هذه العصابات ظل محصوراً محلياً، واتهموا صانعي العمل بانتقائية تاريخية وأخذ شخصيات واقعية خارج سياقها لتأطيرها داخل سرد قومي هندي محدد.
مايانك شيخار، ناقد سينمائي من مومباي، لفت إلى أن الفيلم صُنِع وغُيِّر ووُضِع على الشاشة من قبل صنّاع ربما لم تطأ أقدامهم أرض كراتشي، فكانت النتيجة مدينة متربة وكأنها ساحة أنقاض، مطلية بدرجة سيبياي تقليدية كما في بعض إنتاجات هوليوود التي تصور “العالم الثالث” بلون واحد.
كيف استُقبل الفيلم داخل الهند؟
على الصعيد التجاري، حقق “دهورندهر” إيرادات ضخمة في الهند وبين الشتات الهندي في الخارج، لكنه لم يفلت من النقد تماماً. رفعت أسرة ضابط بالجيش الهندي، الميجر موهيت شارما، عريضة أمام محكمة دلِّي لإيقاف عرض الفيلم بدعوى استغلال شخصيته وحياته بدون موافقة الأسرة. ردّ صانعو الفيلم بأن العمل من نسج الخيال بالكامل. ومع ذلك، لاحظ محلّلون وناقدون أن الفيلم يستعين بتسجيلات صوتية اعترضتها المخابرات لوقائع هجمات على الأراضي الهندية ولقطات إخبارية، ما أضاف بعداً وثائقياً يُغذي الإحساس بالواقعية.
هل هو نمطٌ متصاعد في بوليوود؟
يؤكد بعض النقاد، منهم شيخار، أن الميل إلى تمثيل البطل الذكوري المغامر بصوتٍ مرتفع ومبالغ فيه ليس جديداً في بوليوود، لكنه أصبح يعتمد الآن سرديات قومية أقوى ولغة بصرية استعراضية تخدم مشاعر وطنية محددة. يبقى السؤال كيف ستتفاعل السينما والشعوب المجاورة مع هذه المنتجات التي تخلط بين الخيال والتراتبية التاريخية، وهل ستؤدي إلى مزيد من الاحتقان أم إلى محادثة نقدية أعمق حول تمثيل الآخر وجدلية الذاكرة. هناك ميل إلى تأطير هذا التيار بصبغة فكرية، كما فعلنا مع أفلام «الشاب الغاضب» في سبعينات القرن الماضي، بحسب وصفه، مشيراً إلى سنوات التكوين الأولى في بوليوود.
في السنوات الأخيرة، تميل شركات الإنتاج السينمائي الرئيسية في الهند إلى تبنّي سيناريوهات تصور الأقليات بصورة سلبية وتتماهى مع سياسات الحكومة القومية الهندوسية برئاسة ناريندرا مودي.
قالت كيرماني للجزيرة إن ذلك غالباً ما يعني اختزال المسلمين عبر حدود الهند وداخلها بوصفهم «إرهابيين»، وهو ما يعمق تهميشهم ثقافياً.
وللأسف، يميل الناس إلى هذه الروايات القومية المفرطة، والمخرج يستثمر ذلك مادياً، كما أوضحت لمراسل الجزيرة.
مودي نفسه أشاد بفيلم حديث بعنوان «المادة 370» لما اعتبره «معلومات صحيحة» بشأن إلغاء الحكم الخاص الذي كان يمنح ولاية جامو وكشمير وضعاً ذاتياً في 2019. لكن النقاد وصفوا الفيلم بأنه «دعاية» وأنه اختزل الحقائق وأعاد تشكيلها.
وردّ آخر، فيلم «قصة كيرالا» الصادر في 2023، بات متّهماً بتزوير الوقائع؛ وقد أشاد به مودي، بينما اعتبره مقامون أنه يسعى لتشييه صورة المسلمين وتجريم ولاية كيرالا الجنوبية المعروفة بسياساتها التقدمية.
في قضية فيلم «دهوراندار» تعرّض بعض النقاد لحملات مضايقة إلكترونية. فقد أُزيلت مراجعة الناقدة أنوباما تشوبرا على قناة The Hollywood Reporter India على يوتيوب بعد غضب متابعي الفيلم، إذ حُوّل الفيديو إلى وضعية خاصة بصمت ضمن ما رصد من ردود فعل.
للسياق، أُطلق ذات الإصدار الهندي من The Hollywood Reporter بواسطة RPSG Lifestyle Media التابعة لمجموعة RP-Sanjiv Goenka، التي تمتلك أيضاً سريغاما.
وقد دانت نقابة نقّاد السينما في الهند «الإساءة المنسقة، والهجمات الشخصية على نقّاد أفراد، والمحاولات المنظمة لتشويه نزاهتهم المهنية» في بيان رسمي.
وأضافت النقابة أن الأمر الأخطر يتجلّى في محاولات التلاعب بالمراجعات المنشورة، والتأثير على المواقف التحريرية، وإقناع المنشورات بتعديل أو تليين مواقفها.