في صيف 2020 تواجد رجلان روسيان، إيغور روغوف وأرتم فازنكوف، في مينسك ليشهدا الاحتجاجات الحاشدة التي اهتزت بها عاصمة بيلاروس بعد انتخابات مثيرة للجدل اتهمت بتزوير النتائج لصالح الرئيس ألكسندر لوكاشينكو. كانا عضوين في حركة «روسيا المفتوحة» التي أسسها الملياردير المنفي ميخائيل خودوركوفسكي. في ظهر يوم 11 أغسطس، عندما كانا يسيران قرب فرقة لقمع الشغب، قفز نحوهم عناصر دروع واقية من بين أحراج الشارع فأطيح بهما أرضًا ونقلا في شاحنة إلى مركز اعتقال حيث تعرّضا للضرب أثناء النقل، بحسب روايتهما.
في مركز الاحتجاز تعرضا مرة أخرى للعنف وأُكرهَا على الركوع في أوضاع مُرهِقة ثم أطلق سراحهما لاحقًا دون توجيه تهم بعد تدخل السفارة الروسية. ومع ذلك، شعر فازنكوف بصدمة عندما علم أن روغوف اعتُقل لاحقًا في بولندا بتهمة التجسس.
قال فازنكوف لــ«الجزيرة» من ألمانيا إنه تفاجأ بردود فعل بعض المعارف الذين ادّعوا أنهم عرفوا حقيقته منذ الوهلة الأولى، واصفًا تلك الادعاءات بأنها «هراء كامل». كان انطباعه عن إيغور إيجابيًا، ولذلك صدمتْه وقلقته تلك الخلاصات المبكرة.
بحسب لائحة اتهام اطلع عليها صحفيون، اعترف روغوف أمام المحققين البولنديين، وهو في الثلاثين من عمره، بأنه عمل لصالح الاستخبارات الروسية لسنوات، كما وُجّهت إليه تهامات بالاشتراك في مؤامرة لتفجير أجهزة حارقة في أنحاء أوروبا. عُقدت الجلسة الأولى في 8 ديسمبر، وإذا أدين فسيكون أول عنصر معروف من أصول كريملين ضمن حركة معارضة يحصل على ملاذ في أوروبا.
تتداخل قضيته مع مناخ أمني حساس في القارة، إذ شهدت أوروبا موجة من أعمال التخريب والحرائق وخرق بطائرات دون طيار وأنماط أخرى من «الحرب الهجينة» التي تُحمّل موسكو مسؤوليتها، مما زاد من شكوك السلطات تجاه حاملي جوازات سفر روسية. لكن الصورة ليست بسيطة كما تبدو: لا يمكن اختزال كل حالة إلى خطر واحد.
روغوف من مواليد سارانسك، مدينة تبعد نحو 630 كيلومترًا شرق موسكو، وعمل لفترة في مقر إقليمي لمؤسسته الراحلة المعروفة أليكسي نافالني قبل أن يصبح منسقًا محليًا لروسيا المفتوحة. يصفه فازنكوف بأنه شاب لطيف واجتماعي وطيب القلب، يحب التجوّل والمحددات الاجتماعية البسيطة ولا يبدو عليه أي عداء نحوه.
بعد حادث مينسك خاض روغوف محاولة ترشيح محلية في بلدته دون نجاح، ثم تقدم لمنحة دراسية في علوم الحاسوب في بولندا. ومع الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022 وقمع أي معارضة داخل روسيا، تسرّع في مغادرة البلاد إلى المنفى. تقول تقارير إن زوجته فضحته في دردشة على واتساب مع مهاجرين روس آخرين بعد شجار، ثم حذفت الرسائل وحاولت التهاون بالقول إنها مزحة.
في يوليو 2024 تلقى تحذيرًا من زميل سكنه: الشرطة تساءلت عنه بعدما عُثر في مستودع شحن على طرد يحتوي مواد متفجرة موجهة إليه، لكنه كان يقضي عطلة في مونتينيغرو حينها، فاعتُقل فور عودته. واحتجزت زوجته أيضًا إلى جانب امرأة أوكرانية. ووفق ما نقل عن المحقّقين، اعترف بأنه كان يزوّد جهاز الاستخبارات الفدرالي الروسي (إف.إس.بي) بمعلومات لسنوات. حاول بعد انتقاله إلى بولندا أن يقطع علاقاته، لكن ضباطًا سابقين هددوه بتجنيد والده وإرساله للقتال في أوكرانيا إذا لم يمتثل.
من منظور فازنكوف، حتى لو كانت ثمة صحة في اتهام العمل كعميل، لم يكن روغوف مطّلَعًا على معلومات حساسة. في تسلسل عمل روسيا المفتوحة، يقول فازنكوف إن صلاحيات روغوف اقتصرت في الغالب على القضايا العلنية—من ضمنها من رافق من في مؤتمرات معينة أو من سهِر مع من—ومشاكل داخلية بسيطة لا ترقى إلى مستوى معلومات استراتيجية.
لا تزال أسئلة الجوهر بلا إجابات؛ لماذا عاد روغوف الى بولندا إن كان يعلم أن الشرطة تبحث عنه؟ ولماذا فرّ متهم آخر في قضية المتفجرات، إميل غاراييف، عائداً إلى روسيا؟ يقر فازنكوف بإمكانية صحة معلومات عن اعترافه بالعمل مع «الإف.إس.بي»، لكنه يعبر عن شكوكه الجدية إزاء تهمة التخطيط لهجوم إرهابي داخل بولندا.
يتماشى ما زُعِم بشأن مؤامرة القنابل مع نمط هجمات نُسبت إلى روسيا قبل الحرب وبعدها، من قبيل انفجار قاتل في مستودع أسلحة تشيكي عام 2014 نُسب إلى الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU). ومنذ غزو أوكرانيا تصاعدت هذه الحوادث.
في نوفمبر أعلنت الاتحاد الأوروبي تشديد قيود التأشيرات على الروس لأسباب أمنية، بما في ذلك إلغاء التأشيرات متعددة الدخول، وهو ما اعتبره روس معارضون للعدوان قرارًا مجحفًا ويعوق بناء تحرك معارض للكرملين. وقالت رئيسة السياسة الخارجية للاتحاد كايا كلاس إن السفر إلى الاتحاد «امتياز وليس derecho مُعطى» — تصريح يهدف إلى تبرير تشديد القيود.
تشرح إيلينا غروسفيلد، الباحثة في تقنيات التجسس الروسية والسوفييتية بكلية كينغز في لندن، أن الاستخبارات الروسية تاريخيًا وظفت عناصر من الشتات، وأن أي فرد في المهجر قد يمثل تهديدًا أمنيًا محتملاً، بما في ذلك لاجئون أو، كما تضيف، أشخاص آخرون قد يتعاونون مع موسكو. لكنها تحذر من المبالغة في التعميم، مشيرة إلى أن النمط التاريخي لتجنيد المهاجرين موجود منذ الثورة الروسية عام 1917.
مع ذلك، لم تُسجّل حالات توقيف عدد كبير من المواطنين الروس بتهم تتعلق بالحرب الهجينة؛ فبدلًا من استراتيجية الحرب الباردة القائمة على عملاء نائمين طويلو المدى، يبدو الميل الآن نحو الاستعانة بمنفذين محليين قليلين الخبرة لتنفيذ مهمات محددة مقابل مبالغ نقدية غالبًا بالعملات المشفرة، تتراوح من مئات إلى آلاف الدولارات. يُستدرَج المراهقون على نحوٍ خاص بسهولة إلى أدوار تخريبية مأجورة، إذ تستغل شبكات التجنيد ضعف خبرتهم وشغفهم بالمغامرة.
«الكثير من الأشخاص يجري تجنيدهم عبر قنوات تيليغرام التي تعرض وظائف مؤقتة ومهام متفرقة»، أوضحت غروسفيلد.
«يذهب مراهق إلى قناة ناطقة بالروسية، ثم يدعو أصدقاءه، وعندما تصبح المهمة مُلعبة — «عليك أن تنقل هذا الغرض من هنا إلى هناك، وتصوّره، وترسله» — ومع وجود حسّ تنافسي، يصبح الأمر مغرياً للمراهقين وغيرهم».
أصغر مشتبهٍ به كان طفلة تبلغ من العمر 11 عاماً اعتقلتها الشرطة الأوكرانية في أوديسا. وقد وُجّهت اتهامات مماثلة لجهاز الاستخبارات الأوكراني بشأن توظيف مخربين داخل روسيا.
كما تُستهدف عناصر مرتبطة بعالم الجريمة المنظمة، لا سيما من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وإن كانت غروسفيلد أشارت إلى أن شبكات الجريمة والمجتمعات الروسية قد تكون مراقَبة بالفعل من قبل السلطات.
«إذا نظرنا إلى المحاكمات في المملكة المتحدة، فقد جرى تجنيد بريطانيين وبولغاريين أيضاً»، قالت.
في وقتٍ سابق من هذا العام، أُدِينت مجموعة من المجرمين الصغار بإحراق مستودع في لندن كان يحتوي على إمدادات اتصالات مخصّصة لأوكرانيا نيابةً عن حساب تيليغرام مرتبط بشركة المرتزقة فاغنر، ولم يتقاضَوا أية أموال عن الحريق لأنهم اندفعوا إلى التنفيذ دون انتظار إشارة إدارة العملية.
كما فكّرت العصابة في اختطاف رجل الأعمال الروسي المنفي يفغيني تشيتشفاركين، الذي كان يسلم مساعدات إلى أوكرانيا شخصياً، لكن المخطّة لم تُنفَّذ.
«أعتقد أن مواطني روسيا لا يزال ينبغي منحهم تأشيرات، لأنه إذا اعتمدنا على المعلومات المتاحة من المصادر المفتوحة، فإن أجهزة الاستخبارات تتصرف بطريقة مختلفة بعض الشيء، والجهات التي تُنظّم أعمال التخريب في الغالب مواطنو الاتحاد الأوروبي أو حتى أوكرانيون أو من دول ثالثة، ونادراً ما يكونون لاجئين سياسيين»، قال فازينكوف، واحتمالا هنا يكمن الخطر الأكبر في رفض إصدار التأشيرات.
«على حدّ علمي، كان روغوف الحالة الوحيدة التي اتُّهم فيها ناشط سياسي مُمنوح له اللجوء بنشاط تجسسي. لذلك، أرى أن الاستمرار في منح التأشيرات ضروري، وغيابها يسبّب ضرراً أكبر من الخطر المحتمل الناتج عن منح التأشيرات لأشخاص غير مناسبين.»