قبل خمسةَ عشرَ عاماً، أقدم بائعُ خضار تونسيّ، محمد البوعزيزي، مستسلماً لليأس من الفساد الرسميّ والعنف البوليسيّ، على إحراق نفسه في قلب بلدته سيدي بوزيد، فغيّر مسار المنطقة إلى غير رجعة.
آثار وتداعيات
إنّ كثيراً من الآمال التي أثارتها تلك اللحظة التاريخية تبدو اليوم مهدومة. فقد كلفت الثورات التي تبعتها في تونس وليبيا ومصر وسوريا أرواحَ عشرات وآلاف القتلا، وفي حالٍ عديدة تلاها فوضى أو عودة أشدّ لأنماط الحكم السلطويّ.
تونس: وعد لم يُوفَّ بعد
لفترةٍ من الزمن بدا أن تونس وحدها تستوفي وعد “الربيع العربي”، فامتدحها أنصار الديمقراطية دولياً بينما تغاضوا عمنعها إخفاقاتٍ اقتصادية وسياسية أثارت سخطاً عاماً على امتداد العقد الماضي. لكن الكثير من مكاسب ما بعد الثورة تلاشت بعد الاستحواذ الدراميّ على السلطة من قبل الرئيس قيس سعيّد في يوليو/تموز 2021، الذي اعتبره معارضوه انقلاباً ودشن عهدًا أكثر تشدداً.
دفن آمال الثورة
على مدى السنوات التالية، أغلق سعيّد البرلمان مؤقتاً (أعيد فتحه في مارس 2023)، وأعاد صياغة الدستور، وشنّ حملة ضاغطة بلا هوادة على النقاد والمعارضين. كما قال بعض المتابعين إن الاستهداف شمل القضاة ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات من مختلف الخلفيات السياسية، لا سيما من تحدثوا عن توحيد المعارضه ضدّ ما وصفوه بنظام الانقلاب.
التبريرات والشعبوية
سعىّد برر قراراته بأنها امتداد لثورة البوعزيزي، وصوّر نفسه رجلاً من الشعب يقاتل لوبيات وسوىء نفوذ تمنع تحقيق طموحات المواطن. لكن بينما أخمد القمع الكثيرين، قاوم آخرون المشاركة في انتخاباتٍ باتت في نظرهم مجرد موكبٍ يؤمّنه المشهد الرئاسي.
انهيار المشاركة السياسية
في انتخابات 2014 الأولى بعد الثورة بلغ الإقبال نحو 61%، أما في انتخابات العام الماضي فَتقلّص الإقبال إلى نصف ذلك تقريباً. يقول مسؤولون في منظمات حقوقية إن حكم سعيّد السلطويّ قد دَفَن آمال 2011 نهائياً عبر سحق الحقوق والحرّيات وتقويض مؤسسات الديمقراطية.
المجتمع المدني وصموده ثمّ خنقه
بعد الثورة ازدهرت منظمات المجتمع المدني وتكوّنت آلاف الهيئات التي ناضلت ضد الفساد ودافعت عن حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية وحرّية الصحافة وحقوق النساء. وفي المقابل، ازدهر النقاش السياسي وتنافست برامجٌ ومبادرات حول شكل الهوية الوطنية الجديدة. هذا الفضاء الحضاري ظلّ حيّاً حتى 2022، لكن صدور المرسوم 54 لعام 2022 الذي جنّس جرائم على أساس “الاتصال الإلكتروني الكاذب” خنق النقد داخل وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. الحرية التي كانت إحدى المكاسب القليلة للدورة الثورية تآكلت بفعل الاعتقالات المتزايدة والتشريعات المقيدة.
تصعيد دولي ومحاكمات منظمات غير حكومية
في 2025 أدانت كل من منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش حملات القمع بحق الناشطين والمنظمات غير الحكومية. وأشارت تقارير إلى أن محاكمات وقرارات قضائية أوقفت أنشطة نحو 14 منظمة تونسية ودولية خلال أشهر قليلة، من بينها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومنصة “نواة”، وفرع تونس للمنظمة العالمية ضد التعذيب.
استهداف قادة ما بعد الثورة
اعتُقل عشرات من الشخصيات السياسية التي تشكّلت حكومات ما بعد الثورة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الحزبية. ففي أبريل 2023 وُجهت اتهامات لقائد التيار الرئيسي ما بعد الثورة، راشد الغنوشي، بتدبير “مؤامرة ضد أمن الدولة”، وما لبثت الإدانات اللاحقة أن أضافت سنوات سجن إضافية قد تصل إلى عقوبات طويلة؛ كما اعتُقلت معارضته البارزة عبير موسى بتهم مختلفة. ينفي المنتقدون مصداقية هذه الاتهامات ويقولون إن معايير الاعتقال مبنية على قدرة الشخص على حشد المعارضة ضدّ سعيّد، لا على أدلة ملموسة.
عودة بعض الوجوه إلى السجن
لا يزال غنوشي وموسى وعدد من النواب المنتخبين سابقاً خلف القضبان، بينما غاب معظم الأحزاب التي تنافست على السلطة عن المشهد البرلماني. وبعد تعديل الدستور في 2022 تضاءل دور البرلمان وأصبح أقلّ تهديداً للرئاسة.
البرلمان القديم والجدل الديمقراطي
حتى وإن كان البرلمان القديم متفرّقاً ومتخبّطاً أحياناً، فقد كان منتخباً ديمقراطياً وعرقلة تشريعاته أحياناً كانت دفاعاً عن ما يعتبره أعضاؤه مصالح البلاد. أما البرلمان الجديد، كما يرى بعض المراقبين، فشكّل منبراً للخطاب القاسِ والوقح أحياناً في وجه الوزراء، بدلاً من أن يكون فضاءً للاختلاف البنّاء والنقاش المؤسساتي. «لكن في الجوهر الأمر مجرد عرض؛ تقريبا جميع الأعضاء هناك لأنهم يوافقون قيس سعيّد.»
تلاشت الآمال بأن يكون النظام القضائي ضابطاً لصالـح التوازن. واصل الرئيس إعادة تشكيل السلطة القضائية وفق رؤيته الخاصة، بما شمل إقالة 57 قاضياً في 2022 لرفضهم إصدار أحكام تتلاءم مع مطالبه.
بحلول انتخابات 2024 بدا المشروع مكتملاً: ما تبقى من معارضة قضائية، على شكل المحكمة الادارية، أُخضِع لهيئة انتخابية عيّنها هو شخصياً، وأُودع أكثر المرشحين جدّية للسُّلطة الرئاسية السّجن.
«القضاء الآن شبه خاضع تماماً لسيطرة الحكومة»، قال نافتي. «حتى في عهد زين العابدين بن علي كان هناك المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يشرف على تعيينات القضاة وترقياتهم والمسائل التأديبية. الآن هذا الوجود على الورق فقط، ووزير العدل قادر على تحديد أي القضاة يُرسَلون الى أي محكمة وما الأحكام التي سيصدرونها.»
مشيراً إلى «الصمت المخزي للمجتمع الدولي الذي كان يدعم الانتقال الديمقراطي في البلاد»، قال خواجة: «سعيّد أعاد تونس إلى حكم استبدادي.»
تظاهرة ضد سعيّد في الذكرى الرابعة للاستيلاء على السلطة. تونس، 25 يوليو 2025 [تصوير: جيهد عبدلاوي/رويترز]