اشتباكات في حلب لم تحدث في فراغ
لم تنشأ الاشتباكات بين قوات الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في حلب — ثاني أكبر مدن البلاد — بشكل مفاجئ؛ فالتوتر بين الطرفين ارتفع مع اقتراب الموعد النهائي المقرر لنهاية العام لعملية دمج القسد داخل بنية القوات المسلحة السورية الجديدة.
التوتر والتصعيد المؤقت
اندلعت المواجهات بعد ظهر يوم الاثنين أثناء زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، لكنها توقفت مساء ذلك اليوم بعد اتفاق الطرفين على وقف إطلاق النار. يرى محلّلون أن القسد بقيادة القائد العسكري مظلوم عبدي (المعروف أيضاً بمظلوم كوباني) والحكومة السورية وصلا إلى طريق مسدود بشأن آلية دمج المقاتلين الأكراد ضمن هيكل عسكري دولة موحّد، وان فشل التوصل إلى اتفاق جاد قد يعيد اندلاع معارك أو تصاعداً عسكرياً بينهما.
كما قال توماس مكغي، زميل ماكس فيبر المتخصّص في الشأن السوري بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، لقناة الجزيرة: “خطوط حمراء الإدارة الذاتية من جهة، وتركيا/دمشق من جهة أخرى، تقدم تناقضات صارخة، ولا أرى طريقاً للتوفيق بينهما”.
التفاوضات
في 10 مارس وقعّت الحكومة السورية الجديدة في دمشق برئاسة أحمد الشعار وقوات سوريا الديمقراطية اتفاقاً تاريخياً يقضي بدمج القسد في القوات المسلحة السورية الجديدة بحلول نهاية 2025. تتألف القسد في غالبيتها من عناصر وحدات حماية الشعب (YPG)، الجناح العسكري للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تصنّفه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا كمنظّمة “إرهابية”.
رُئي الاتفاق كوسيلة لتجنّب مواجهة متفجّرة بين دمشق والقسد المدربة من قبل الولايات المتحدة، غير أنّه بعد عشرة أشهر، ورغم أن الاتفاق ساعد في تفادي المواجهات، فإنّ التقدّم في تنفيذه لا يزال ضئيلاً. وأوضح مكغي أن “التقدّم في تنفيذ هذا البند يتطلب تنازل طرف ما… ولذلك، يبقى الوضع الراهن سائداً”.
نقطة الخلاف الأساسية تتجسّد في موقف القسد الذي يفضّل إدراج كتائبها الحالية ضمن القوات السورية بصيغة تمنحها قدراً من الاستقلالية المؤسسية، مقابل موقف دمشق التي تفضّل إدماج المقاتلين على أساس فردي. وقد اعتبر محلّلون أن هذين الموقفين يصعب التوفيق بينهما، وأنّ الاتفاق الشامل لا يبدو وشيكاً.
دور تركيا والضغوط الإقليمية
دعمت أنقرة موقف دمشق وهددت حتى بتدخل عسكري أحادي إذا لم يُحرز اتفاق. وقال فيدان لوسائل إعلام تركية: “نأمل أن تسلك الأمور طريق الحوار والتفاوض وبالوسائل السلمية. لا نريد أن نصل إلى اللجوء إلى الوسائل العسكرية مجدداً. لكن على القسد أن تفهم أن صبر الأطراف المعنيّة قد نفد”. ورغم ذلك، يرى محلّلون أن تركيا، بعد سنوات من التمرد المسلّح مع حزب العمال، توصلت إلى صفقة لتجريد الأخير من السلاح، وأنها قد لا ترغب في تقويض هذه المساعي بمواجهة عسكرية مع القسد.
الإدارة الذاتية الكردية
مع انتهاء حكم الأسد الذي استمر أكثر من خمسة عقود في 8 ديسمبر، عاد ملايين السوريين إلى بلادهم بطموح إلى مستقبل أفضل، ولاسيما في المناطق التي كانت تحت سيطرة القسد خلال سنوات الحرب؛ إذ تعرضت الحقوق الكردية لمحدودية طوال حكم بشار الأسد، واعتبر كثيرون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية. ومع ذلك، خلال الثورة والحرب الأهلية التي استمرت زهاء 14 عاماً، سيطرت القسد على مناطق في الشمال الشرقي — أحياناً بالقوة وبعكس إرادة بعض السكان العرب — وتمكنت من بناء مستوى من الحكم الذاتي الذي تبدو مترددة عن التخلّي عنه.
قال الروائي السوري روبين ياسين قسّاب، وهو مؤلّف مشارك لكتاب Burning Country: Syrians in Revolution and War، للجزيرة: “من ناحية الدفاع الذاتي الكردي وقدرة الأكراد على اتخاذ قراراتهم، يعتقدون أنّهم حققوا شيئاً لم ينلوه من قبل، ولا يريدون التفريط به”.
وأشار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني يوم الاثنين إلى أنّ القسد “لم تظهر أي رغبة” في الاندماج ضمن الإدارة المركزية في دمشق. ومع ذلك، يرى محلّلون أن هناك مستوى عميقاً من انعدام الثقة بين دمشق والقسد، وأن الحكومة كان بإمكانها اتخاذ خطوات لبناء الثقة.
خطوات مفقودة لبناء الثقة
قال مكغي إن الحكومة أخفقت في استثمار بعض الفرص لإثبات حسن النية في تنفيذ الاتفاق من جانبها، مثل الاعتراف بعيد نوروز كعطلة وطنية أو معالجة مشكلة انعدام الجنسية الواسعة التي عانى منها الأكراد تحت حكم الأسد. وأضاف أن خلال زيارته الأخيرة للحسكة، أشارت أوساط محلية إلى أن خدمات مثل الوثائق المدنية التي كانت متاحة عبر مربعات الأمن في القامشلي والحسكة تحت النظام السابق لم تعد موجودة منذ ديسمبر الماضي.
قليل من التقدّم
حظيت الإدارة الجديدة بدعم إقليمي ودولي واسع، وهو ما كان يمكن أن يعزّز موقفها في المفاوضات مع القسد. وخصوصاً أن الولايات المتحدة اقتربت أكثر من دمشق في الأشهر الماضية، بعد زيارة تاريخية للشعار إلى البيت الأبيض وظهور موافقة ظاهرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. علمًا أن الولايات المتحدة دربت وسلّحت القسد في معركتها ضد تنظيم الدولة (داعش). ومع ذلك، قال مبعوث ترامب الخاص لسوريا، توم باراك، إن واشنطن تدعم اندماج القسد في الدولة السورية ولا ترغب في رؤية القسد تنفصل لتشكيل كيان مستقل أو شبه مستقل شبيهاً بإقليم كردستان العراق. باراك أشاد أيضاً بـ«الخيارات المعقولة» التي طرحتها الحكومة أمام قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
قال فلاديمير فان ويلجنبرغ، محلل شؤون الأكراد المقيم في أربيل، لقناة الجزيرة: «الولايات المتحده تريد أن تندمج قوات سوريا الديمقراطية في الحكومة الانتقالية السورية الجديدة، لكنها لا تريد أن يتحول التوتر بين القسد ودمشق إلى صراع مباشر، لأن ذلك سيفتح مزيداً من الفراغات التي قد يستغلها تنظيم داعش للظهور».
ونقلت وكالة رويترز يوم الجمعة أن دمشق «أبدت انفتاحها على اعادة تنظيم نحو خمسين ألف مقاتل من القسد إلى ثلاث تشكيلات رئيسية وألوية أصغر، شريطة أن تتنازل عن بعض سلاسل القيادة وتفتح أراضيها أمام وحدات أخرى من الجيش السوري».
ومع ذلك، نقلت رويترز عن مسؤولين قولهم إن اتفاقاً قاطعاً لا يبدو وشيكاً وأن مزيداً من المحادثات لا تزال ضرورية.
وعلى الرغم من ذلك، يرى محللون أن الاتفاق الذي وقعه الشعار وعبدي في دمشق في 10 مارس كان له أثر إيجابي في الحد من المواجهات.
قال ماكغي: «من اللافت أنه لم يحدث صراع مباشر كبير بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية منذ توقيع الاتفاق، مما يدل على أن بند “وقف إطلاق النار” على الأقل قد صمد إلى حد كبير». وأضاف: «مع ذلك، فإن بنوداً أخرى لم تشهد تقدماً يُذكر».
لا تزال الأمور غامضة بشأن تأثير اشتباكات يوم الإثنين على سير الاتفاق، ويقول المحللون إن احتمال اندماج مقاتلي القسد في صفوف القوات الحكومية قبل نهاية 2025 يبدو غير مرجح.
وقال فان ويلجنبرغ: «المهلة تقترب بسرعة، لكن بعض المسؤولين يرون أن الأهم هو تنفيذ بنود الاتفاق بدلاً من التمسك بالموعد النهائي، لذا من الممكن أن يتم التمديد».