نيران تلتهم غابة الرهبان إبادة بيئية إسرائيلية في جنوب لبنان — هجمات على لبنان

الحدود بين إسرائيل ولبنان مزيج من بنى عسكرية ومزارع وقرى وبلدات صغيرة. وفي وسط هذا المشهد يقبع غاب، يعدّ من آخر الملاذات الطبيعية في المنطقة.

حرج الراهب يقع على الطرف الجنوبي لبلدة عيتا الشعب اللبنانية المطلة على الحدود مع إسرائيل. وتشغل مساحته نحو 16 هكتارًا موزعة على منطقتين متلاصقتين يعرفهما السكان محليًا بالحمَيتَيْن الجنوبي والغربي، اللتين كانتا تتمتعان سابقًا بدرجة من الحماية بسبب غناه البيئي وقيمته الثقافية.

في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت هذه المنحدرات ما تزال مغطاة بسُدْلان من السنديان والخرّوب واللبّان والنّباتات العطرية. كان السكان المحليون يستخرجون من بذور اللبّان السوداء خبزًا محليًا، ويعصرون أوراق الغار لاستخراج زيت وتصنيع صابون تقليدي ذي سمعة طيبة.

وكانت الشجيرات المنخفضة والزهور البرية تملأ السُفلَة والبقع المكشوفة. هذه الأزهار دعمت تربية النحل المزدهرة، التي اتسعت بعد 2019 مع تفاقم الأزمة المالية في لبنان وتحوّل كثير من العائلات إليها كمصدر دخل ثانوي.

لكن البيئة المحلية لم تستطع الصمود أمام الحرب الإسرائيلية على لبنان.

عام من الهجمات المتواصلة، خصوصًا على الشريط الحدودي، انتهى بوقف إطلاق نار في نوفمبر 2024، لكن القصف الإسرائييلي تواصل بانتظام ولا تزال قوات تحتل مناطق على الحدود. بعيدًا عن ثمن الضحايا البشري — الذي تجاوز 4,000 قتيل لبناني — صار حرج الراهب وما يحيط به أشباحًا لما كانا عليه سابقًا.

المشهد الطبيعي كان عُرضة تمامًا للقصف والضربات الجوية. وعند عودة السكان وجدوا بساتين محترقة ومساحات شاسعة اقتُلعت منها الأشجار. وانخفضت أعداد الملقحات التي كانت تعتمد على الأزهار البرية والبساتين، مثل طائر شمّاس فلسطين.

قال مسؤول محلي، علي دكدوق، إن عائلته خسرت معظم خلية النحل التي كانت تملكها والمقدرة بنحو 218 خلية نتيجة القتال، مما اضطرهم إلى مغادرة المنطقة.

بالنسبة لمجتمعات حرج الراهب المحيطة، لم يكن الغاب مجرد مشهد؛ كان مورد رزق وملاذًا حيويًا للحياة البرية. والآن، اختفى جزء كبير منه.

تصاعد الدخان من قذائف إسرائيلية على قرية عيتا الشعب جنوب لبنان، 9 أكتوبر 2023 [محمد زعتري/أ.ف.ب]

دمار واسع

اليوم تبدو مساحة حرج الراهب الأوسع صامتة، ومخدوشة جزئيًا بحفر بيضاء ناجمة عن استخدام إسرائيل لذخائر الفسفور الأبيض. تُظهر صور الأقمار الاصطناعية الآن حفرًا بيضاء متناثرة في ما كان غطاءً أخضر متصلًا، إلى جانب تجريف واسع اقتلع أجزاء أخرى من التضاريس.

بُنيَت عيتا الشعب، التي كان عدد سكانها يقارب 17,000 نسمة، فوق أطلال مدينة محصنة قديمة. كانت السدود والبِرَك والمنحدرات المشقوقة في الحجر الجيري منذ قرون تُعين الفلاحين على تأمين الماء والتربة.

لكن هذا الاستمرارية قُطعت بعنف مع اندلاع الحرب. النار والفسفور محيا خلال أشهر ما لم تستطع قرون أن تمحوه.

يقرأ  باكستان: تعثّر المفاوضات مع أفغانستان بعد اشتباكات حدودية دامية

جاء تدمير حرج الراهب وعيتا الشعب على موجات: بدأت بالمدفعية وقذائف الفسفور الأبيض التي أشعلت السقف الشجري وتركت القشائش والسفلات متقدة، تلتها ضربات جوية مسحت الغابات وحرقت البساتين، ثم جاء الضربة الأخيرة بعد وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024، عندما عبرت قوات إسرائيلية الحدود مستخدمة جرافات. الأشجار التي لم تلتهمها النيران أو القنابل اقتلعت من جذورها بواسطة الآلات.

يرى كثيرون من اللبنانيين أن هذا جزء من محاولة إسرائيلية لخلق منطقة ميتة على الحدود، ما يشكل حزامًا يعتقدون أنه سيقلل تهديدات محتملة عبر إزالة القرى والنباتات التي قد تستخف بوجود تهديدات.

«لم يكتفوا بحرقه؛ أرادوا محوه»، قال أحد القرويين، هاني قاسم.

يستخدمه العديد من الطيور كممر هجري في جنوب لبنان [من صور علي سرور]

الموئل الطبيعي

بالنسبة لهاني وسكان آخرين، لم يكن حرج الراهب منظرًا خلّابًا فحسب، بل نظامًا حيًا كان يغذي حياتهم.

كانت أشجاره الكثيفة تحافظ على التربة على التلال، تحد من التعرية وتوجّه سيول الأمطار الموسمية لإعادة ملء الخزانات الجوفية في منطقة يعرفان فيها الانخفاض المتواصل لهطول الأمطار وأن الجفاف صار تهديدًا دائمًا. التل الآن أصبح عاريًا.

كان الغاب أيضًا موطنًا لأحد أهم المفترسات النشطة في المنطقة، ابن آوى السوري، إلى جانب ابن آوى المخطط والضباع والثعالب الحمراء والظربان الأوروبي ونسر الحية قصير المخلب.

كانت المنغوسة المصرية، النادرة في البراري اللبنانية، تجوب الأدغال، بينما احتلت مستعمرات خرنق الصخر بعض نتوءات الحجر الجيري المطلة على الوادي.

ازدهرت طيور وحيوانات صغيرة أخرى كثيرة، بما في ذلك البوم والهدهد وطائر شمّاس فلسطين والقنافذ والخنازير البرّية، في هذا النسيج المختلط من الغاب والحجر. اعتمدت هذه الأنواع على هذا الملجأ الأخضر الصغير في مشهد يزداد جفافًا.

بعد الدمار، اتجه بعض الحيوانات نحو القرية المهدمة وأطرافها. تأوي الآن ما تبقى من البيوت، التي عاد إليها عدد قليل من العائلات.

بعض العائلات تطعم الحيوانات، فيما تحوم فوقها طائرات إسرائيلية بدون طيار.

«خسرنا نحن الغاب، وهم خسروا بيتهم»، قال هاني، في إشارة إلى الحيوانات.

بالنسبة للقرويين، لم يكن الفقدان مجرد خسارة بيئية بل شخصية عميقة. الغاب الذي كان يرسخ هويتهم ويحمي أرضهم اختفى.

«إنها هوية البلدة»، قال قروي آخر، علي سرور. «واليوم، فقدناها.»

تصاعد دخان أسود إثر غارة إسرائيلية على مشارف عيتا الشعب، 13 نوفمبر 2023 [حسين ملا/أ.ف.ب]

صمت المؤسسات

قبل الحرب الإسرائيلية، شكلت التلال في هذه المنطقة حلقة حيوية في ممر الهجرة شرق المتوسط وأحد أكثر طرق هجرة الطيور ازدحامًا على كوكب الأرض. لكن الآن… انحسر ذلك المشهد واختفت كثير من علامات الحياة والحركة. اصيب سكانٌ كثيرون بفقدان ليس له تعويض. الحياة تغيرت للأبد. كل ربيعي وخريفي تتوقف أسراب اللقالق والجوارح والطيور المغردة قليلاً بين بساتين الزيتون وحدود الغابات في عيطة الشاب قبل أن تواصل رحلاتها جنوباً أو شمالاً.

يقرأ  الرئيس بيترو يرفض اتهام واشنطن بتقاعس بوغوتا في مكافحة المخدرات — أخبار المخدرات

في تقييمه لعام 2025، الصادر في نوفمبر، أكد الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) انقراض نوع القنبرة ذات المنقار الرفيع (Numenius tenuirostris) على مستوى العالم، وهو أحد أوائل الانقراضات المسجلة رسمياً لطائر مهاجر. اختفاء هذا الطائر الذي كان يمر هنا بانتظام بات تحذيراً صارخاً من التسارع في انهيار محاور الهجرة التي كانت تصل بين القارات عبر سماء مشتركة. كما يبرز الضغط الهائل الذي تتعرض له الطيور المهاجرة بالفعل: فقدان المواطن، التوسع العمراني، استخدام المبيدات، تغير المناخ، وصولاً إلى واقع أكثر قسوة في مناطق النزاع المشوهة بتلوّث الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة، وهي آثار تمر غالباً دون أن يلاحظها أحد.

بعد عامين من الدمار، وعلى الرغم من الوثائق الواسعة حول استخدام الفوسفور الأبيض والأضرار البيئية الشاملة في جنوب لبنان وغزة، لم تتناول العديد من منظمات حماية الحياة البرية الكبرى هذه الانتهاكات أو أثرها على مسارات الهجرة. أصدر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة بياناً عاماً في أكتوبر 2023، مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، أعرب فيه عن القلق بشأن الضحايا المدنيين والآثار الإنسانية، لكنه لم يشر إلى لبنان ولم يتناول الضرر البيئي أو الأسلحة المحددة أو النظم الإيكولوجية أو مسارات الهجرة.

بعد سنتين، في مؤتمر الاتحاد العالمي لحفظ الطبيعة المنعقد بأبوظبي في أكتوبر الماضي، تبنّى الأعضاء قراراً يدعو إلى استعادة النظم البيئية اللبنانية المتأثرة بالحرب. وقد اعترف القرار بالتدهور البيئي الواسع في لبنان، بما في ذلك تلوث التربة والمياه، فقدان الغطاء النباتي، التعرية، مخاطر الحرائق، والتهديدات لاتصال النظم الإيكولوجية. ودعا إلى برنامج إنعاش ما بعد الحرب وتوجيهات للاستعادة ودعم فني ومالي دولي. غير أن القرار لم يحدد الأطراف المسؤولة، ولم يتعرض لأسباب الأضرار المحددة، بما في ذلك استخدام الفوسفور الأبيض.

في ذات المؤتمر، تبنّى الأعضاء قراراً آخر يعترف بجريمة الإبادة البيئية («الإيكوسايد»)، مؤسساً إطاراً قانونياً عالمياً ومكلفاً بإعداد إرشادات إضافية، لكنه لم يذكر لبنان أو غزة أو أي نزاع مسلح بعينه. لا يظهر أي من القرارين كمثال على الدمار البيئي المرتبط بالنزاع، على الرغم من النقاش العالمي المتصاعد حول المساءلة عن الأضرار البيئية واسعة النطاق.

ردّ الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة بأن منهجه متعمد أن يكون عالمياً وغير مقيَّد بالقضايا المنفردة؛ وأن قرار الإيكوسايد صُمم ليُطبق على نطاق واسع بدلاً من أن يستهدف نزاعات مسماة، وأن تدمير النظم الإيكولوجية المرتبط بالنزاع يُعالج عبر أُطر قانونية وسياسية عامة بدلاً من خلال تقييمات بيئية مخصصة لكل حالة. هذا الإطار يترك الأضرار الموثقة في جنوب لبنان وغزة خارج أي نسب مؤسسية صريحة أو تحليلات قائمة على الحالات.

يقرأ  إيوايز الأولى في إدارة المشاريع في التعلّم الإلكتروني

تواصلت الجزيرة أيضاً مع الصندوق العالمي للحياة البرية (WWF) وبيردلايف إنترناشيونال للاستفسار عن مواقفهما من أثر الحروب الإسرائيلية في لبنان وغزة على النظم البيئية والحياة البرية المحلية. أوضح الصندوق العالمي أنه لا يملك مكتباً ولا فريق عمل في لبنان أو غزة، ولم يجرِ تقييماً بيئياً متعلقاً بالحرب، وأشار إلى تقريره لعام 2022 «طبيعة الصراع والسلام» كخلفية عامة حول الروابط بين البيئة والأمن والسلام. وأفادت بيردلايف بأنها لم تصدر موقفاً عاماً محدداً بشأن أثر الحرب على الأنواع المهاجرة، وحثّت شركاءها على توثيق التأثيرات عند الإمكان، لكنها لفتت إلى أن توثيق الأضرار الإيكولوجية أثناء الحرب غالباً ما يكون غير آمن أو غير ممكن، وأن ضرر المواطن يؤثر في التجمعات المحلية وقد يؤثر في أنماط الهجرة تبعاً للموسم، لكن لا يمكن تحديد تأثيرهاما بالكامل بعد.

شوهدت الثعالب الذهبية في محيط عيطة الشاب في جنوب لبنان، ما يذكّر بمرونة بعض الكائنات رغم الخسائر.

تسليح البيئة

في جنوبي لبنان كشف النزاع وجهة أكثر ظلمة: تسليح البيئة ذاتها. تحوّلت الغابات والترب والمياه إلى أهداف مقصودة، لا مجرد ضحايا عرضيين، في حملة طمست الفاصل بين الاستراتيجية العسكرية والإبادة الإيكولوجية. اليوم تقف معظم منحدرات عيطة الشاب عارية وميتة؛ جرداء من اللون والضجيج والحركة. المواطن التي كانت تحتضن حشرات وطيوراً وثدييات محوّت، تاركة وراءها تربة ملوّثة وصمتاً حيث كان ينبض الحيو.

في سبتمبر الماضي عبرت بضع أسراب من اللقالق البيضاء السماء فوق المكان، لكنها لم تتوقف كما كانت تفعل سابقاً. لقد تغيّرت المواقع إلى غير رجعة.

من 8 أكتوبر 2023 حتى 3 أكتوبر 2024 وثّق «غرين ساوذرنرز» 195 حالة استخدام للفوسفور الأبيض من قبل القوات الإسرائيلية عبر جنوب لبنان. مخلفات الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة الناجمة عن القصف المتكرر لوثت التربة، مما يفرض مخاطر طويلة المدى على الزراعة وصحة الإنسان. يطالب «غرين ساوذرنرز» بإجراء اختبارات عاجلة وتقييمات إيكولوجية قبل أي محاولة للاستصلاح.

ومع ذلك، يبقى العائق الرئيسي هو الأمن: فالهجمات الإسرائيلية استمرت حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار في 27 أكتوبر 2024، ما أبقى المنطقة غير آمنة لأعمال الترميم والاستعادة. لم تتضمن رسالتك نصًا للترجمه؛ هل يمكنك لصق النص الذي ترغب في إعادة صياغته وترجمته؟

أضف تعليق