عيد الميلاد الأول في غزة منذ عامين قصة أمل وصمود

مدينة غزة — أضاءت كنيسة العائله المقدسة شجرة عيد الميلاد مساء عشية الاحتفال لأول مرة منذ عامين من الحرب التي شهدها القطاع. احتشد المصلّون في القاعة الرئيسة للقدّاس؛ كان الكثيرون منهم مبتهجين ليس فقط لأن اليوم عيد، بل لأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

لم تستطع أضواء الشجرة والزينة أن تُخفي قسوة الواقع الذي خلفته الحرب على غزة. قررت الكنيسة تقليص الاحتفالات إلى صلوات وجلسات أسرية قصيرة، لكن دقّات الأجراس كانت كافية لتغمر الناس بشعور من الفرح المؤقت.

من بين الحاضرين ديمتري بولص (58 عاماً)، الذي غاب عن احتفالات العامين الماضيين بعد أن نزح مع زوجته وطفليه في الأيام الأولى من القتال إثر قصف مكثّف استهدف محيط منزله في منطقة تلّ الهوى جنوب المدينة. «لجأنا إلى الكنيسة طلباً للأمان، لكن اتضح أنّ لا مكان آمناً»، قال بولص، موضحاً أنّ الكنيسة تعرّضت لقصف مرتين أثناء تواجدهم بداخلها وخسروا خلالها أصدقاء وأحباء. «لم يعد لأي شيء طعم»، استعاد بصوت مثقل. «كان الخوف والحزن سيدا الموقف. كيف نحتفل وكل ما حولنا جريح؟»

يأمل بولص، مثل كثيرين آخرين، أن يحمل هذا العيد وبداية العام الجديد نهايةً للمعاناة ورفع القيود عن القطاع. «نحاول أن نمنح أنفسنا والأطفال شعوراً بأن القادم قد يكون أفضل، رغم أن الواقع قاسٍ جداً»، قال، مضيفاً أنه يتمنّى عودة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً.

تكتسب كنيسة العائلة المقدسة أهمّية رمزية تتجاوز حدود القطاع؛ فهي الرعية الكاثوليكية الوحيدة في غزة، وخلال الحرب كان الراحل البابا فرنسيس يتصل بالرعية شبه يومياً، محافظاً على تواصل مباشر مع المجتمع المحاصر.

معظم المسيحيين الفلسطينيين يعيشون في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويقدّر عددهم بين 47 و50 ألف نسمة، وكان هناك نحو ألف مسيحي في غزة قبل اندلاع الحرب. تقلّص عدد المسيحيين في غزة خلال السنوات الأخيرة إلى بضع مئات فقط، بعد أن كان العدد المسجَّل عام 2007 يقارب 3,000.

يقرأ  تحالف الطاقة المتجددة يحشد ٤٫٢ مليار دولار لتمويل مشاريع خضراء في أفريقيا

استهدفت الهجمات الإسرائيلية خلال الحرب عدداً من دور العبادة المسيحية التي لجوء إليها النازحون، وبينما لم تُدرج كنيسة العائلة المقدسة ضمن المناطق المعلنة للتهجير، وُضعت كنائس أخرى في مدينة غزة مثل كنيسة القديس بورفيريوس الأرثوذكسية وكنيسة القديس فيليب الأنجليكانية ضمن تلك المناطق.

ما يقارب 550 نازحاً لا يزالون يقيمون في حرم كنيسة العائلة المقدسة، وهم يساورهم عدمُ ثقة تجاه الجيش الإسرائيلي بعد أن تعرّضت دور عبادة لهجمات متكرّرة رغم ضمانات بعدم استهدافها. كثيرون منهم يعانون صدمات نفسية ويحاولون إعادة بناء شظايا حياة تشبه الطبيعيّة.

نو زند ترزي (63 عاماً) وقفت خارج ساحة الكنيسة تراقب المصلين من بعيد، لا تطلب الانخراط في احتفالاتهم؛ قالت: «قلبي ما زال ثقيلاً من مآسي التعب والإرهاق التي عشناها خلال الحرب». نزحت تحت القصف قبل عامين، فقدت بيتها في ضربة إسرائيلية ثم فقدت ابنتها البالغة من العمر 27 عاماً التي مرضت فجأة وتوفيت بعد أن تعذّر وصولها إلى المستشفى في وقت مناسب بسبب الحرب. «نسأل الله أن يرزق الصابرين الصبر وأن تهدأ الأحوال في غزة»، قالته متمنية السلام والأمن للجميع.

هذا الأمل يتردّد في أرجاء القطاع، الذي يضم نحو مليوني نسمة يواجهون هجمات متواصلة، خروقات لوقف إطلاق النار، نقصاً حادّاً في الغذاء والدواء والمأوى والخدمات الأساسية. تقول مصادر حكومية إن أكثر من 288 ألف أسرة تعاني أزمة مأوى مع تفاقم القيود على المساعدات الإنسانية، وتشير إحصاءات منظّمات دولية إلى أن أكثر من 80% من المباني في غزة أصيبت بأضرار أو دُمرت، مما أدى إلى تشريد هائل.

إدوارد صباح (18 عاماً) عرف مبكراً طعم الحرب والنزوح. نزح من بيته وابتعث للجوء في كنيسة القديس بورفيريوس في حي الزيتون بشرق المدينة، التي تعرّضت لقصف في 19 أكتوبر 2023 أسفر عن مقتل 18 شخصاً. «كنا مجتمعين في ساحة الكنيسة نتحدّث كالمعتاد حين ضرب انفجار هائل أحد مباني الكنيسة»، يتذكّر. نجت عائلته ثم انتقلت لاحقاً إلى كنيسة أخرى مكثوا فيها نحو عام ونصف.

يقرأ  تعطّل حساب مادورو على يوتيوب وسط تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة | أخبار المخدرات

أعوام أعياد الميلاد الأخيرة حملت حزنًا عميقاً، يقول إدوارد، لكنه لا يزال مفعماً بالأمل ورغبة في الحياة؛ يأمل استكمال دراسته الثانوية بعد انقطاعها بفعل الحرب. في هذا العيد شعر عدد من المسيحيين في القطاع وباقي فلسطين بفرحة مؤقتة وارتياح بسيط وسط ساحات معذّبة لا تزال تنتظر السلام. يتحدث الكثير من الفلسطينيين عن إحساس قوي بالانتماء وارتباط لا ينفصم بأرضهم بالرغم من الصعاب والمآسي والحروب.

لهذا السبب قررت جانيت مسادم، امرأة تبلغ من العمر 32 عاماً من غزة، أن تصفف شعرها وتلبس ثياباً جديدة لتحتفل بعيد الميلاد للمرة الأولى منذ عامين.

تعيش جانيت مع والديها وإخوتها في الكنيسه، وتأمل ألا تعود الحرب كي تستأنف عملها في علم النفس. [عبدالحكيم أبو رياش/الجزيرة]

قالت مسادم متأثرة: «لقد سئمنا الحزن والفقد والتهجير والخوف الذي أخذ منا الكثير من حياتنا وسنواتنا».

وأضافت: «أنا منهكة تماماً مما شهدناه داخلياً، لكن ماذا نفعل؟ علينا أن نحاول أن نصنع الفرح والسعادة».

مثل كثير من المسيحيين في غزة، نزحت مسادم مع عائلتها — الوالدان والأخ والأخت — إلى الكنيسة هرباً من القصف في حي الرمال بوسط مدينة غزة.

تأمل العائلات المسيحية في غزة أن تجلب بعض بهجة الميلاد هذا العام بعد عامين من الحرب. «نامل ألا تعود الحرب، وأن يجتمع الناس مع أحبائهم، وأن نرى مستقبلاً أفضل، وأن تُبنى غزة من جديد قريباً.»

أضف تعليق