الحكم والمهارات — ما لا يمكن للأتمتة استبداله

لماذا تظل البصيرة التجارية مهمة

تقنيات رسم خرائط المسارات المهنية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تغيّر طريقة رؤية المؤسسات للمواهب، لكن ليس كل ما له وزن يمكن تحويله إلى شيفرة. مع الميل نحو التوظيف القائم على المهارات، والتنقّل الداخلي، وتقدّم المسارات المساندة بالذكاء الاصطناعي، يبدو الموظف كحصيلة قدرات قابلة للقياس. الأنظمة باتت تحدد ما يعرفه الأشخاص، وتربط تلك المهارات بمتطلبات الوظائف، وحتى تقترح الخطوة التالية في المسار المهني. هذا منهج فعّال، قابل للتوسيع، وغالباً ما يكون دقيقاً. ومع ذلك، حين يُختزل العمل إلى قوائم مهارات، يُفقد شيء جوهري: الروابط التي تجمع هذه المهارات، والحكم الذي يعطي تلك الروابط معنى.

الفرق الذي يُحدثه الحكم

المهارات تصف ما يمكن للفرد فعله؛ الحكم يقرّر متى ولماذا وكيف يختار تطبيق تلك المهارات. هذا الفارق يميّز بين فعل يضيف قيمة وفعل يكتفي بإتمام مهمة. المهارات ضرورية للأداء داخل الدور الوظيفي، لكن الحكم هو الذي يربط ذلك الأداء بسياق العمل الأوسع. الحكم الجيد يظهر حين يستطيع الشخص موازنة المقايضات، وتوقّع التبعات عبر الأقسام، والادراك كيف يعيد قرار واحد تشكيل الخيارات المتاحة للآخرين. في عالم قائم على المهارات، ان القدرة على ربط القرارات بالنتائج هي ما يمنح للعمل أثره.

نموذجان للحصاد والأثر

يمكن تصور تحرك القيمة داخل المؤسسة بطريقتين:

نموذج 1: خطّي — يركّز على الكفاءة والاتساق. أنظمة المهارات تدعم أداءً موثوقاً ومتكرراً داخل الدور الوظيفي.

نموذج 2: سياقي — يركّز على التكيّف والمرونة. أنظمة مدفوعة بالحكم تربط القرارات عبر الوظائف، كاشفة كيف تتفاعل الخيارات وكيف تتحرك القيمة عبر بنية العمل. الصورة المُصاحبة توضّح تدفّق المهارات نحو القرار ثم الفعل ثم التاثير عبر سياق المؤسسات.

كلا النموذجين مهمّان؛ الأول يضمن الاتساق والكفاءة، والثاني يمنح القدرة على التكيّف والصمود. هذا التحوّل هو ما تبرزّه البصيرة التجارية.

يقرأ  هلوسات الذكاء الاصطناعي في التعلم والتطوير: ما هي وما أسبابها؟

بناء حكم أفضل

الحكم لا يولد من البيانات وحدها، بل يتشكّل من التداول في القرارات، والقياس، والتأمل. الناس يطوّرون الحكم عبر اشتباكهم مع المقايضات، وملاحظة العواقب، ومقارنة النتائج بالتوقعات. مع مرور الوقت، يتحوّل تكرار هذه العملية بالمعلومات إلى بصيرة. أبحاث حول اتخاذ القرار المبني على التعرف تشير إلى أن الخبراء يطوّرون قدرة على تمييز الأنماط نتيجة التعرض لتباينات ذات معنى: عواقب حقيقية، ظروف متغيرة، وردود فعل فورية تصقل الغريزة. البيانات قد تُعلِم القرار؛ لكن التجربة تُعلّم لماذا كانت له أهمية.

لهذا السبب يعتبر التعلم القائم على الخبرة بالغ الأهمية. المحاكاة، ومناقشة السيناريوهات، ومراجعات المشاريع تمنح المتعلّم مجالاً آمناً لاختبار المنطق قبل أن تكون المخاطر حقيقية. تُعيد هذه الأدوات خلق تعقيد الأعمال بدون كلفة الأخطاء. كل قرار يضيف طبقة فهم جديدة، تشكّل أنماطاً تساعد الأشخاص على تمييز السبب والنتيجة أسرع في مواجهة عدم اليقين. ومع ذلك، تُظهر البحوث حول الخبرة الحدسية أن الحدس يصبح موثوقاً فقط حين تكون ردود الفعل صالحة ومتكرّرة.

دور التعلم والتطوير (L&D)

الذكاء الاصطناعي قادر على رسم خرائط المهارات، لكنه لا يمكن أن يعلّم الحكم. هذه المهمة تبقى من نصيب متخصصي التعلم والتطوير. عندما تعتمد المؤسسات أُطُرَ التقدّم القائم على المهارات، يقع على عاتق L&D تصميم تجارب تربط البيانات بالتمييز. ليس كافياً إظهار المهارات المطلوبة تالياً؛ يجب على الناس أن يروا كيف تتفاعل هذه المهارات، وأين تظهر المقايضات، وكيف تتغير النتائج بتبدّل الظروف.

هذا يستدعي إعادة التفكير في تصميم التعلم. الهدف ليس إضافة وحدات لمجرّد ملء مسار تعليمي، بل خلق فرص للتأمل واتخاذ القرار. الأبحاث في التعلم التجريبي تُظهر أن التجربة وحدها لا تُولد التعلم؛ الناس يتعلّمون حين يتأملون ويصلّون بين الفعل والنتيجة، وبين البصيرة والتطبيق. برامج تستخدم محاكاة أعمال، وتحديات حالات، أو جلسات استخلاص معارف منظمة تساعد المتعلّمين على ربط ما يعرفونه بما يختارون فعله. دراسات في الممارسة التأملية تبين أن المحترفين لا يطوّرون المعرفة فحسب، بل يغيّرون طريقة تفكيرهم عبر تساؤل الفرضيات وتكييف نماذجهم الذهنية. هنا تتلاقى الثقة المالية، والتفكير التجاري، والوعي التنظيمي.

يقرأ  إسرائيل تهدد كل من يبقى في مدينة غزة — مقتل 13 على الأقل في القطاع

العائد واضح في اتجاهين: المتعلّمون يكتسبون وضوحاً وثقة في كيف تؤثر خياراتهم على النتائج، والمؤسسات تكسب أفراداً قادرين على تفسير البيانات في ضوء السياق والعمل بقصد وهدف بدلاً من الامتثال الآلي.

مستقبل التعلم

سيستمر الذكاء الاصطناعي في رسم الخرائط، والفرز، والتشخيص الشخصي. ستتوسع أنظمة المهارات لتشمل التنقّل الوظيفي وتخطيط الموارد البشرية. لكن المؤسسات الناجحة ستكون تلك التي توازن الدقّة مع المنظور — التي تستثمر ليس فقط فيما يمكن للناس فعله، بل في كيفية تفكيرهم. في عالم يمكن للذكاء الاصطناعي فيه رسم كل مسار ممكن، الحكم هو ما يساعد على اختيار المسار الصحيح. وهذه الجزئية لا يستطيع بناءها إلا التعلم الممنهج والخبرة المدروسة.

مراجع مختارة

– كلاين، غاري. 1998. مصادر القوة: كيف يتخذ الناس القرارات. مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
– أرجيريس، ك., وشون، د. 1978. التعلم التنظيمي: منظور نظرية الفعل. أديدسون-ويسلي.

حقوق الصور

الصور المرافقة للمقال أُعدّت ووفّرها المؤلف.

أضف تعليق