ثلاث رسائل تُعيد ضبط الأوضاع في شرق اليمن — الصراع

تزايدت الإشارات السياسية والعسكرية في المسرح اليمني المعقّد أصلاً. في زمن قياسي غير مألوف صدرت ثلاث بيانات متعاقبة ضمن سياق واحد: بدءاً بطلب رسمي من الرئيس رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي الحكومة المعترف بها دوليًا، تلاه رد عملي من التحالف الذي تقوده السعودية، ثم رسالة سياسية من وزير الدفاع السعودي تؤطّر التحركات الميدانية وتحدّد اتجاهاتها.

لا يمكن قراءة ما جرى كخطوة معزولة أو كجزء من تهدئة روتينية. التسلسل يوحي بترتيب يستخدم الشرعية اليمنية كإطار سياسي لتحرّك سعودي يهدف إلى كبح تمدد حليف يتقدّم شرقيًا، وفي الوقت نفسه يقلّل من فرص الحوثيين في استغلال أي انقسام داخل المعسكر المقابل. لذلك كان ثقل البيانات الثلاثة أكبر من ألفاظها؛ إذ نقلت الأزمة من شد وجذب مفتوح إلى مسار واضح يقوم على طلب رسمي، ثم استجابة ميدانية، ثم رسالة سياسية تحدد حدود الحركة وتبيّن اتجاهها.

لماذا الشرق ولماذا الآن؟
قد تبدو أسماء المحافظات اليمنية مهمة هامشية لغير الناطقين بالعربية، لكن حضرموت والمَهْرَة استثناء. تمثل حضرموت عمقًا اقتصاديًا لليمن بما تملكه من موارد نفطية وغازية وبنى تحتية ذات صلة، كما تضم معبرًا حدوديًا حيويًا مع السعودية مما يجعلها جزءًا من معادلة الأمن الحدودي والتجارة. أما المَهْرَة، فبفضل موقعها الحدودي مع عُمان والسعودية، تتحكم في موانئ ومعابر ومسارات حركة تؤثر على الأمن الإقليمي والاقتصاد المحلي. هذا الموقع يجعل أي توتر في الشرق قضية حدودية محورية لا أزمة محلية فحسب، وأي اضطراب واسع النطاق هناك لن يبقى محصورًا داخل اليمن فحسب، بل يمس اقتصاد البلاد ويزيد حساسية الحدود في المنطقة ويثير مخاوف بشأن استقرار طرق التجارة.

لهذا ترى الرياض أن الشرق منطقة ينبغي تحييدها عن الفوضى قدر الإمكان. مع تمدّد قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا نحو حضرموت والمَهْرَة، تحوّل الملف من تحرّك ميداني محدود إلى امتحان لحدود التحالف نفسه، وإلى سؤال مباشر حول من له الحق بإدارة الأمن والموارد في مناطق لا تحتمل صراعًا مطوّلًا.

يقرأ  الأمم المتحدة تدين الانقلاب العسكري في مدغشقر، وزعيمه يستعد لأداء اليمين كرئيس بصورة عاجلة

جاءت الخطوة الأولى عبر بيان نسب إلى مصدر حكومي عن طلب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اتخاذ إجراءات عسكرية لحماية المدنيين في حضرموت ودعم القوات المسلحة لفرض الهدوء. أهمية هذا النص تكمن في رفع المسألة من مستوى خلافات بين قوى داخل نفس المعسكر (المجلس الانتقالي عضو في مجلس القيادة) إلى مستوى تصعيد يهدد سلامة المدنيين والاستقرار، مما يستدعي تحرّك الشريك الداعم.

يُمنح التحالف من خلال هذا الطلب مسوغًا سياسيًا أوضح للتدخل، إذ يتحرّك استجابة لطلب من رأس سلطة معترف بها دوليًا. داخليًا، يرسل الطلب رسالة لا تقل أهمية: أن الرئاسة لا تريد أن تتحول إلى واجهة تبرّر وقائع مفروضة، بل تسعى لتأكيد أن السيطرة الميدانية تكون عبر الدولة حتى لو استعانت بدعم إقليمي لتحقيق ذلك.

وجاء البيان الثاني من التحالف بنداء عاجل للمجلس الانتقالي بالانسحاب من حضرموت والمَهْرَة وتسليم المعسكرات لقوات «درع الوطن» وتمكين السلطات المحلية من أداء مهامها، مع تحذير من التعاطي المباشر مع أي تحرّكات عسكرية تنافي جهود خفض التصعيد. لا تستهدف هذه الصيغة خفض التصعيد فحسب، بل ترسم خطوات تنفيذية: انسحاب، ثم تسليم، ثم إعادة الدور للسلطة المحلية.

لافت في البيان ذكر قوات «درع الوطن»؛ إذ لم يقتصر الأمر على دعوة لإخلاء المواقع، بل تضمن اقتراحًا لطرف بديل يتسلّمها، ما يقلّل احتمال فراغ أمني ويمنح الرياض أداة عملية لإدارة الملف الشرقي بعيدًا عن منطق تعدد الفاعلين. أما عبارة «التعاطي المباشر»، فتمثّل أكثر التحذيرات وضوحًا، إذ ترفع كلفة أي محاولة لاختبار حدود التحالف أو فرض واقع جديد بالقوة.

وجاء البيان الثالث لوزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان آل سعود موجَّهًا بالأساس إلى الشعب اليمني، مؤكّدًا أن تدخل المملكة جاء استجابةً لطلب الحكومة الشرعية وفي إطار دعم استعادة الدولة والحفاظ على أمن اليمن. شدّد على أن «القضية الجنوبية» مطلب سياسي عادل لا يمكن تجاهله، وأنها أُدرجت في مسار الحل السياسي عبر مؤتمر الرياض واتفاق الرياض لضمان مشاركة الجنوب في الحكم. ودعا المجلس الانتقالي إلى «الرجوع الى العقل» والاستجابة لجهود الوساطة السعودية والإماراتية لوقف التصعيد وتسليم المعسكرات سلميًا.

يقرأ  ناسا تستعد لإرسال بعثة مأهولة إلى القمر بحلول فبراير ٢٠٢٦— أخبار الفضاء

تعمل هذه الإطارات في اتجاهين؛ تمنح الاعتراف السياسي لقضية الجنوب، وفي الوقت نفسه تضع حدودًا صارمة للطريقة التي تُسعى بها هذه القضية، إذ تميّز الرياض بين حقّ قضية عادلة وبين استخدام القوة لتغيير خرائط السيطرة في مناطق موارد وحدود. كما تترك للمجلس مخرجًا عمليًا عبر التسليم السلمي بدل المواجهة المفتوحة.

ماذا يعني هذا للمجلس الانتقالي الجنوبي؟
يضع هذا التسلسل الانتقالي أمام اختبار مباشر. الطلب جاء من رأس السلطة الشرعية التي ينتمي إليها المجلس، والبيان التشغيلي من التحالف ربط سقف حركته، والإطار السياسي من وزير الدفاع السعودي قدّم مخرجًا عبر التسليم السلمي. في هذا السياق، يمكن للانسحاب المنظّم أن يمكّن المجلس من تقديمه كإسهام في خفض التصعيد، مع الاحتفاظ بخطابه السياسي ونفوذه في مناطقه التقليدية. أما المماطلة أو التحدّي المباشر فسيزيدان المخاطر، فقد يؤديان إلى ضغوط سياسية ودبلوماسية أكبر وتصوير المجلس كعائق أمام جهود تخفيف التوتر في منطقة حساسة للغاية. كما تعيد الرسائل الثلاث رسم حدود التمدّد داخل المعسكر ذاته؛ لأن ترتيبات النفوذ في مراكز ومناطق معيّنة تختلف عن محاولات إعادة تشكيل النفوذ في شرق اليمن بالقوة.

الحوثيون يراقبون
الحوثيون، كفصيل مسلح لهم حكمهم المدعوم من إيران ومسيطرون على العاصمة صنعاء والشمال الغربي، يراقبون أي شقّ في صفّ خصومهم ويحاولون استغلاله. من هنا، تُرسِل السرعة في التنسيق بين الرئاسة اليمنية والتحالف إشارة إلى حكّام صنعاء بأن المعسكر المقابل قادر على إدارة نزاعاته في مناطق حسّاسة، وأن المراهنة على صراع داخلي كطريق إلى الشرق قد لا تكون مضمونة. إضافة إلى ذلك، تقلّل إقامة ترتيبات أمنية حول مناطق الموارد من فرص الاستفادة السياسية من فوضاها وتزيد صعوبة أي دفع مستقبلي نحوها.

يبدو ذكر «الوساطة السعودية–الإماراتية» في بيانات التحالف وبيان وزير الدفاع السعودي ذا حساسية عالية، لأن علاقة أبوظبي بالمجلس الانتقالي ليست مجرد تواصل سياسي، بل رعاية وتمويل ودعم يمنحها حرية تحرك وداعمًا دائمًا. عندما تظهر الإمارات كوسيط مع السعودية، فإنها تبعث برسالتين متضادتين: تمنح المجلس شعورًا بالحماية وفي الوقت ذاته تضع أبوظبي في موقف حرج لأن الوساطة تقتضي التزامًا عمليًا بوقف التصعيد، لا مجرد إعلان نيات.

يقرأ  زلزال بقوة ٧٫٠ يهزّ تايوان — دون تسجيل أضرار كبيرةأخبار الزلازل

هذا يجعل الوساطة اختبارًا لمدى توافق الحسابات داخل التحالف ذاته، ومقياسًا مباشرًا لمدى استعداد أبوظبي لاحترام نهج شريكتها الرياض في ملف تعتبره تهديدًا لأمن حدودها ومصالحها الاستراتيجية. لكن يبقى السؤال: هل ستنجح أبوظبي في دفع المجلس نحو خفض التصعيد، أم سيبقى الغطاء السياسي بينما تتدهور الوقائع على الأرض في اتجاه آخر؟

أين نتجه؟
الأرجح أن السعودية تدفع نحو تسوية قصيرة الأمد تتضمن انسحابًا مرحليًا، وتسليمًا منظمًا للمعسكرات، وترتيبات أمنية تمنع أي طرف من فرض سيطرته أحاديًا في مديريات حضرموت والمَهْرَة. يحافظ هذا المسار على حد أدنى من الاستقرار ويقلّل احتمال اندلاع اشتباكات داخل المعسكر المعارض للحوثيين. وإذا تعثّرت الأمور، فستظهر أدوات ردع محدودة تهدف إلى فرض السقف المعلَن، مع إبقاء قناة الوساطة مفتوحة لتفادي انفجار شامل.

البيانات الثلاث رفعتا كلفة تحويل شرق اليمن إلى ساحة منازعة مفتوحة، لكنها لم تُغلق المشهد نهائيًا.

في رأيي، ما سيحدد الاتجاه ليس البيانات وحدها بل سلوك الأطراف في الأيام المقبلة: هل يختار المجلس الانتقالي تسوية تحفظ ماء الوجه، أم يراهن على كسب الوقت؟ وهل ستنجح ترتيبات «البديل الأمني» في تقليل الاحتكاك، أم ستولد حساسيّات محلية جديدة؟

وسؤال أخير يتعلق بالحوثيين: هل سيرون هذا الاحتواء رادعًا يقلّل فرص الاستثمار في النزاعات، أم سيعتبرونه فرصة لاختبار حدود الحركة؟

ستتضح الإجابات قريبًا، لأن الأحداث ما تزال سريعة، ولأن شرق اليمن بات إما معيارًا للاستقرار أو بوابة نحو فوضى أوسع.

أضف تعليق