قد يُسهل تجاهل تصعيد تهديدات رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب تجاه فنزويلا واعتبارها إحدى نزواته العشوائية، لكن هذا التصعيد مرتبط ارتباطًا وثيقًا بصراعات كبرى بحيث لا يمكن النظر إليه كقضية إقليمية ذات تأثير محدود على بقية العالم.
فنزويلا تتحوّل إلى ورقة مساومة في لعبة القوى العظمى العالمية، إلى جانب أوكرانيا.
اطّلع على الفصول الافتتاحية في كتاب أنتوني بيفور عن الحرب العالمية الثانية لترى كيف أن حرائق تبدو منفصلة على قارات مختلفة — مذبحة نانكينغ في الصين، غزو موسوليني لأبيسينا والحرب الأهلية الإسبانية — لعبت أدوارًا في التهيئة لأفظع مآسٍ في التاريخ الحديث.
وليس المقصود هنا القول إن العالم بالضرورة ينزلق إلى حرب عالمية ثالثة — رغم أن تهديدها قائم دائمًا. طالما أن اللاعبين الرئيسيين في العلاقات الروسية‑الأميركية، ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، يميلان حاليًا إلى التعاملات التي تخدمهما متبادلًا أكثر من المواجهة، تبدو صفقة عالمية احتمالية أكثر من حرب كبرى.
رغم أنها ليست قوة كبرى، فإن فنزويلا تكتسب أهمية عالمية — ليس فقط بكونها الدولة التي تملك أكبر احتياطات نفطية مثبتة في العالم، بل كذلك بحكم تحالفاتها السياسية مع الصين وإيران وروسيا — الدول التي ترى فيها الغابة الغربية بقيادة الولايات المتحدة ألد خصومها. ومن بين هذه الدول الثلاث، تجد روسيا نفسها في وضع أدق حيال فنزويلا. فالتصعيد الذي تقوده الولايات المتحدة ينطوي على مخاطر بالنسبة للكرملن، لكنه يحتوي أيضًا على مكاسب محتملة.
العامل الأساسي هو الانفراج غير المتوقع في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا خلال الولاية الثانية لترامب.
منذ صعود بوتين إلى السلطة في 2000، رأت الكرملين الولايات المتحدة شريكًا غير موثوق به أولاً، ثم خصمًا مكتمل الأوصاف يطمع في سياسة فرق تسد في جوار الاتحاد السوفيتي السابق.
لكن الأمور عادت فجأة إلى نوع من الشراكة عندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع 2025. الولايات المتحدة قلّصت تقريبًا مساعدتها المالية لأوكرانيا وتبنّت موقفًا يكاد يكون محايدًا، مع احتفاظها بتزويد الجيش الأوكراني بمعلومات استخبارية حاسمة. وفي أحدث نسخة من استراتيجيتها للأمن القومي، استبعدت الولايات المتحدة روسيا من لائحة «التهديدات المباشرة».
وبينما تتقدم محادثات السلام بشأن أوكرانيا، التي بادر إليها ترامب، ببطء، لدى بوتين أسباب مشروعة للاعتقاد بأن الحرب تنتهي وفق شروطه. ورغم التصنّع في التحدّي، ألمح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرًا إلى احتمال قبوله انسحاب جيشه من الشمال الدونباسي — وهو من أشدّ المطالب الروسية قسوة في المفاوضات. كانت هذه تنازلاً آخر ألمح إلى استعداده له في 2025، بينما لم تبتعد موسكو قيدَ شبرٍ عن موقفها التفاوضي.
وفي الوقت نفسه، أخفقت دول الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على قرض تعويضي قد يضمن تمويلًا مستقرًا لأوكرانيا في السنوات المقبلة. وعلى الرغم من ابتكار بديل أرخص في مفاوضات اللحظة الأخيرة، فإن الحكاية بيّنت أن التزام أوروبا بأوكرانيا يقترب من حدوده.
وبالنظر إلى كل ما سبق، ليس أفضل توقيت لدى الكرملن لإفساد علاقة عمل عسيرة لكنها إلى حد كبير نافعة مع إدارة ترامب بسبب أمر بعيد وغير مرتبط جوهريًا بمصالح روسيا الأساسية مثل فنزويلا.
بالتأكيد ستطلق روسيا كل الضوضاء المتوقعة. مندوبها لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، ادعى أن التهديد بفنزويلا يعد «استعمارًا جديدًا عدوانيًا». وقال إن الولايات المتحدة «تفرض نظامها بشكل سيّء بينما تحاول الاحتفاظ بالهيمنة العالمية والحق في استغلال ثروات البلدان الأخرى بلا محاسبة».
هذا إشارة إلى مطالبة الولايات المتحدة العلنية بأن تفتح فنزويلا أبوابها مجددًا لشركاتها النفطية، التي كانت تسيطر على جزء كبير من صناعة النفط في البلاد قبل تأميمها التدريجي في سبعينيات القرن الماضي.
وليس الأمر أن لروسيا نفسها لا مصلحة لديها في ثروات فنزويلا — فشركات النفط الروسية أبرمت مشروعات مشتركة مع شركة النفط الفنزويلية الحكومية (بي.دي.في.إس.إيه)، رغم أن تاريخ تلك العلاقات متذبذب، لا سيما بسبب العقوبات الأميركية.
لكن روسيا لن تبذل قصارى جهدها لإنقاذ حكومة لاتينية صديقة. سيكون الدعم الروسي لفنزويلا دائمًا متناسبًا طرديًا مع الضغط الأميركي الموجّه إلى روسيا فيما يتصل بأوكرانيا.
ليس سقوط حكومة نيكولاس مادورو نهاية العالم بالنسبة للكرملن. لدى روسيا تاريخ في التكيّف مع أنظمة سياسية جديدة حلت محل حلفائها التقليديين في بلدان عانت من هاجس الولايات المتحدة بتغيير الأنظمة؛ والعراق وسوريا مثالان واضحان.
هناك أيضًا بُعد حسابي سياسي ساخر. فالمكاسب الجيوسياسية المحتملة من شن الولايات المتحدة هجومًا عسكريًا على فنزويلا قد تفوق الخسائر.
ذلك لأن ذلك سيضع روسيا والولايات المتحدة على قدمٍ متساوية من الناحية الأخلاقية فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا. إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها عبر العدوان العسكري في ما يسميه الأميركيون «فناءها الخلفي»، فلماذا لا تستطيع روسيا أن تفعل الشيء نفسه في نطاقها الخاص؟ عدوان الولايات المتحدة على فنزويلا سيبرر، في أعين كثيرين — خصوصًا في الجنوب العالمي — العدوان الروسي على أوكرانيا. وعلى نحو مفيد للكرملن، قد يفاقم ذلك الانقسامات بين الولايات المتحدة وأوروبا ويُغذي الاستقطاب داخل الولايات المتحدة نفسها.
وإذا ما واصلت إدارة ترامب، إلى جانب فنزويلا، اندفاعها غير العقلاني لاحتلال جرينلاند، فستكون الحال مثالية للكرملن. قد يفتح هذا أيضًا سبلًا لتقارب ما بعد أوكرانيا مع جزء أوروبا الذي تقوده الاتحـاد الأوروبي، والذي يعد حاليًا خصمه العالمي الرئيسي.
عموماً، يرى الروس أنفسهم حُماة النظام القديم، محافظين نهائيين في سياساتهم الخارجية. يرون الغرب بقيادة الولايات المتحدة قوة مُراجعة مسؤولة عن تقويض النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وينظرون إلى الحرب في أوكرانيا كوسيلة لمقاومة ذلك التغيير.
لكن بحسب منطقهم، إذا لم يكن هناك عودة إلى النظام القديم الذي يحمّلون الغرب مسؤولية انهياره، فلنتفاوض على نظام جديد: نظام تسمح فيه الولايات المتحدة بما تريد في نصفها الغربي، وتحتفظ روسيا بنفوذها على جوار الاتحاد السوفيتي السابق.
السيناريو المثالي لروسيا هو أن تغرق الولايات المتحدة في مستنقع فنزويلا لسنوات. لكن إن سقط مادورو سريعًا، فذلك مقبول أيضًا. عندما يهدأ الغبار، قد يبدو الناتج كتبادل — فنزويلا موالية للولايات المتحدة مقابل انتهاء الحرب في أوكرانيا بشروط روسية.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للجزيرة.