بين احتفال العالم بالسنة الجديدة وخوف أهل غزة مما سيحمله — الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

مرت سنة أخرى، وما زالت الحياة في غزة محاصرة بين آلةٍ إسرائيليةٍ للقتل وصيرورةٍ متزايدةٍ من اللامبالاة العالمية. سنةٌ أُضيفت إلى تقويمنا الخاص بالخسارة والخراب والموت.

في مارس، كتبت عن مخاوفي من أن تذهب إسرائيل أبعد مما فعلت في مسعاها الإبادي، وكانت النتيجة أنها تجاوزت حتى أسوأ توقعاتي، وبلغت شرًّا لا يُتصور؛ شرٌّ طغى على العام كله بالنسبة لنا في غزة.

بينما أرى كثيرين يشاركون ملخّصاتٍ عن لحظاتٍ مفضلةٍ من عام 2025، رغبت في أن أشارك نسختي الخاصة. هكذا بدا العام بالنسبة لي.

بدأنا بهدنةٍ دامَت 45 يومًا؛ استراحةٌ قصيرةٌ من القنابل لم تكفِ حتى لنستوعب ذهنيًا خمسة عشر شهرًا متواصلةً من القتل والدمار.

في فبراير قابلت عددًا من الأسرى الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم ضمن الهدنة، واستمعت إلى قصص الرعب التي رواها عن اختفاء قسري تحت يد الجيش الإسرائيلي. من بينهم كان معلّمي في الثانوية، عنتر الأغا. حين رأيته أوّل مرة، لم أصدق أنه هو. بدا شاحبًا هزيلًا إلى درجة أنه لم يستطع مدَّ يده لمصافحتي.

حدَّثني عن الزمن الطويل الذي قضاه في ما سمّوه «غرفة الجرب» في مراكز الاحتجاز الإسرائيلية: غرفة وُقِدَت كي تكون حاضنةً للجرب. «في فجرٍ من الفجر، سُمح لي بغسل يدي، لكن ذلك لم يثبت راحةً. ما إن لَمَس الماءُ يدي حتى بدأت الطبقة الجلدية تتقشّر كما لو أنها بطاطا مسلوقة ساخنة. الدم فاض من كلتا يديَّ. لا يزال الألم حاضرًا»، هكذا روى.

في مارس استأنفت إسرائيل إبادةً شاملة، فقتلت أكثر من أربعمائة شخص في ضربةٍ واحدةٍ منتصف الشهر، وأغلقت كل المعابر إلى القطاع.

في أبريل بدأت تظهر أولى بوادر المجاعة الشاملة.

في مايو أجبرتني القوات الإسرائيلية على النزوح مع أسرتي من منزلنا في شرق خان يونس.

يقرأ  بيلينغهام يقود ريال مدريد لهدف متأخر ويعادل النتيجة أمام إلتشي

ومع نهاية ذلك الشهر ابتكرت إسرائيل شكلًا جديدًا من القتل الجماعي والإذلال، أسمته بسخرية «مؤسسة غزة الإنسانية»، أُطلقت بمساعدة الولايات المتحدة، وبدأت توزع الطعام على جياعنا في صيغةٍ أشبه بلعبةٍ قاسيةٍ من «ألعاب الجوع».

في يونيو، وبسبب الجوع الشديد، ذهبتُ إلى إحدى نقاط هذه المؤسسة. هناك رأيتُ شعبي يزحف على الرمال الحارقة للحصول على طعام. رأيتُ شابًا يحتمي من الرصاص خلف جسد إنسانٍ آخر. رأيتُ شبابًا يطعن بعضهم بعضًا من أجل كيلوغرامٍ واحدٍ من الدقيق.

في يوليو دمّرت القوات الإسرائيلية منزلي وكل الحي الذي أعيش فيه.

في أغسطس أكد تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل (IPC) رسميًا أن غزة تعاني مجاعةً. لم يبقَ لنا طعامٌ نأكله، ولا حتى دقيق. كنا نُعدُّ خبزًا رقيقًا بطبقةٍ رفيعة بعد طحن العدس الأحمر أو علف الأرز. قطعةٌ منها كانت وجبتي الوحيدة في اليوم.

في سبتمبر أمر الجيش الإسرائيلي بنزوحٍ جماعي آخر من شمال غزة إلى جنوبها، مقذوفًا مئاتِ الآلاف في بئرٍ من البؤس يتكرر فيه الانتقال من مكانٍ إلى مكان.

في أكتوبر أعلن عن هدنةٍ أخرى. بحلول ذلك الوقت، لم أعد أملك طاقةً لأشعر بشيء؛ لقد أبلعني الحزن على فقدان عددٍ كبيرٍ من أقاربي وأصدقائي المقربين، على منزلي وبلدتي بأسرها. خسرت عقديّ العمل الحر ككاتب محتوى؛ لم أستطع الاستمرار في العمل وسط ظروف النزوح اللاإنسانية.

في العمق، كنت أعلم أن إسرائيل لن تلتزم جانبها من صفقة الهدنة، وأن هذا لن يكون الخيط الأخير لخساراتنا.

في نوفمبر تأكدت شكوكِي. واصلت إسرائيل قصفنا. تحوّلت الإبادة من حملةٍ صاخبةٍ عنيفةٍ إلى نسخةٍ أكثر هدوءًا، لكن لا تقلّ فتكًا. استمرّت مصادرة الأراضي، وعلامة «الخط الأصفر» توسعت لتبتلع المزيد من الأراضي، بما في ذلك ما تبقّى من حيي. وفي ذلك الشهر تجسدت لامبالاة العالم أكثر عندما امتنع عددٌ من الحكومات عن إدانة انتهاكات الهدنة الإسرائيلية، ومَنحتها بدلًا من ذلك مكافآت، كاتفاقٍ للغاز بقيمة 35 مليار دولار.

يقرأ  عقبات شائكة تهدد بتقويض اتفاق سلام بين موسكو وكييف

في ديسمبر ضرب شتاءٌ قاسٍ؛ غُمرت الخيام بالمياه وانهيارت بنايات، وبدأت رُضَّع تموت من البرد القارس.

لو استطعت مسح حدثٍ واحدٍ من ذاكرةِ عامِ البؤس هذا، لكُنْتُ أزلت زيارتِي إلى موقع «مؤسسة غزة الإنسانية». المشاهد التي رأيتها هناك بالنسبة لي تمثل ذروة الشر. لا أزال لا أستطيع التخلص من شعور الخوف كلما مررت بالأماكن التي عبرتها ذهابًا وإيابًا إلى ذلك الموقع.

اليوم، وأنا أتجوّل في أزقّة مخيم الخيام المغمورة بالمياه، أسأل نفسي: ما الذي يجعل كل هؤلاء الناس يُمسِكون بحبال الحياة بعد أن فقدوا منازلهم ووظائفهم وأحباءهم؟

حسب ظني، ليس الأمل وحده؛ بل مزيجٌ من العجز والاستسلام للمصير.

ربما لأن الزمن في غزة متوقّف. هنا الحاضر والماضي والمستقبل تتعايش دفعةً واحدة.

الزمن هنا ليس سهمًا يطير؛ إنه دائرة تذوب فيها البدايات والنهايات، وبينهما تسكن حلقات لا نهائية من العذاب المروع.

كما في قوانين الفيزياء الأساسية التي لا تميّز بين الماضي والحاضر، فإن المأساة في غزة لا تميّز كذلك.

حركةُ بندولٍ من اليمن إلى اليسار هي ذاتها الحركة في الاتجاه المعاكس، بنفس الطاقة والزخم. ما لم نبادر نحن ببدء العملية، لن يُمكن تمييز الماضي عن المستقبل.

مؤخرًا بدأت أُفكر بمفهوم السببية الرجعية في غزة، حيث يؤثّر المستقبل في الماضي، أو يحدث الأثر قبل السبب. وأنا أرى المباني تنهار الآن كأنها تتداعى أمام ناظرينا، أتصور طائرات إسرائيلية تقصفها في زمنٍ مستقبلٍ، رغم أننا نراها تتحطّم الآن.

طبعًا سيجادل البعض بأن المباني تنهار لأن دمار القصف الإسرائيلي السابق أضعفها، لكن صحيحٌ أيضًا أن إسرائيل تستمر في قصف ما يعيد الفلسطينيون بناؤه؛ نفس البناء يُقصف ويُعاد بناؤه مرارًا، فلا غَرابة إذا تصوّر أحدٌ أن أنقاض الفلسطينيين في الحاضر ستُدمر مجددًا في المستقبل بقنبلةٍ إسرائيلية. هكذا يتعذر فصل الزمنين.

يقرأ  كانداس أوينز — مؤثرة يمينية متطرفة أميركية تخسر معركتها القانونية لدخول أسترالياأخبار المحاكم

بينما يتطلع العالم إلى عامٍ جديدٍ ومستقبلٍ أفضل، فإننا في غزة نخشى القادم. محاصرون بين ماضٍ لا نجرؤ على تذكره ومستقبلٍ لا نجرؤ على تخيّله.

لا نستطيع حتى أن نضع قراراتٍ لسنةٍ جديدة لأننا لا نملك أي سيطرة على حياتنا.

أريد أن أقلّل من السكر، لكن إسرائيل قد تفعل ذلك عني بمنع دخول الغذاء مجددًا إلى غزة.

أريد أن أتعلم السباحة، لكن إسرائيل قد تطلق علي النار إن وطأت قدماي البحر.

أريد أن أزرع حديقةً خلف منزلي، لكنني لا أستطيع الاقتراب منها.

أريد أن آخُذ أمي إلى العمرة، لزيارة المسجد الحرام، لكن إسرائيل لا تسمح لنا بالسفر.

ربما القرار الوحيد للعام الجديد الذي أستطيع اتخاذه هو أن أعتاد على الاستحمام بالماء البارد؛ قلة الغاز والحطب قد تُسهّل تحقيق هذا التمنّي.

في غزة لا شيء نخططه، وكل شيء نحلم به.

الآراء المعبر عنها هنا تخص الكاتب وحده ولا تعكس بالضرورة موقف قناة الجزيرة التحريري.

أضف تعليق