لوحة بابلو بيكاسو “ليل الصيد في أنتيب” (1939) توقفت أمامي في متحف الفن الحديث في نيويورك كأنها تحفر بصمتٍ في ذاكرة الزمن.
العام 1939. ليلة صيفية دافئة، قمرٌ أصفر كبير يغمر الأفق. في قارِبٍ قريبٍ من شاطئ أنتيب يجتهد صَيَّادان لكسب رزقهما: أحدهما ينوء برمحه تجاه سمكة كبيرة متجهمة، والآخر يجرب حظه بخيطٍ و صنّارة. جرادة بحرية متحفظة تراقب من بعيد. مصابيح الغاز تتلألأ على سطح الماء وتتصاعد شررها في الهواء. فتاة على دراجة تقف على رصيف مرتفع تراقب المشهد وهي تلعق مثلجاتها، ويبدو أنها بصحبة صديقة.
موناكو الفاخرة على بعد أقل من ساعة بالسيارة، ونيش الشاطئية أقرب. كلُّ شيءٍ يبدو هادئًا وجميلاً، لكن تحت هذه المياه الهادئة تدور تياراتٍ خبيثة تُنبئُ ببزوغ حربٍ عالمية ثانية أشد فتكا، لم تكد تفصلنا عنها سوى أسابيع.
اللوحة معلقة الآن على جدارٍ عند مفترق مزدحم يصل بين سلمين متحركين في الطابق الخامس من المتحف؛ هناك، من الصعب أن تحظى بلحظةٍ خاصة مع هذا العمل التكعيبي، فكيف نستمع إلى إنذاره بأننا لسنا ببعيدين عن حربٍ ثالثة أفظع—قد تكون مدفوعةً بتقنية ذكية؟
هذا العمل الواسع (حوالي 2×3.5 متر) استحوذت عليه موما عام 1952 عن طريق أولغا هيرش غوغنهايم، زوجة الصناعي والمحسن سايمون غوغنهايم من عائلة صنعت ثروتها في إمبراطورية التعدين والصهر العالمية التي بلغت ذروتها خلال الحرب العالمية الأولى. وقد وُجّهت إلى بعض أفراد العائلة اتهاماتُ الربح من الحرب عبر تلاعبهم بأسعار النحاس الضروري لصناعة الأسلحة. كثيرون منهم تخَلّوا عن التعدين منذ ذلك الحين، وصاروا بعدها رمزًا للراعي الثقافيّ الكبير—وهذا نفس النمط الذي نراه اليوم لدى متبرعي وقيّمي موما المعاصرين المتهمين بالاستنزاف والربح من المجمع الصناعي-العسكري.
ومن المفارقات أن 1939، سنة رسم بيكاسو “ليل الصيد في أنتيب”، هي نفسها السنة التي أعار فيها “غيرنيكا” (1937)، أشهر لوحاته المناهضة للحرب، إلى موما للحفاظ عليها بعد اندلاع الحرب في أوروبا. التاريخ دوّارةٌ من السخرية: من يجمعون الفن المناصر للسلام كثيرًا ما يكونون نفسهم من يبيعون القنابل.
وأثناء وقوفي أعترض طريق السلم المتحرك متفكرًا في هذه التشابكات، دوّى إشعارٌ في هاتفي: الولايات المتحدة، وبعد ثمانين عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية النووية، قَرَّبتْ غواصات نووية إلى حدود روسيا.
خارج المتحف، شمس أغسطس كانت تَجلِدُ الأسفلت والأرصفة وناطحات السحاب في مانهاتن بعذابٍ لا يرحم؛ شمسٌ متغطرسةٌ تصرخ بأن تعود إلى حيث أتيت. ومع ذلك، كانت الشوارع تعجّ بالمتسوقين والسائحين ومرتادي الآيس كريم—كلهم يسيرون في روتينهم اليومي، وكل واحدٍ منهم بدا لي كصيّادٍ من لوحات بيكاسو.