نحن متحمسون لأن نعرض لمحة أولية اليوم عن معرض إريك كروز الجديد بعنوان “Monkey Puzzle” الذي يفتتح في معرض ريتشارد هيلر في سانتا مونيكا. أعمدة كروز في النحت المعاصر أشبه بموائد فاخرة بالمقارنة مع الطعام السريع: أكثر تأنقًا وتفصيلًا وتفردًا، لكنها أيضًا أكثر مطالبةً وإشباعًا وإثارةً للإلهام. لا يمكن التهامها بعجلة؛ بل تُثمن، وبوفرة، كل لحظة من الانتباه الذي تهديها إياك، مرارًا وتكرارًا.
في زمن يتم فيه تداول الفن بسرعة، سواء على المنصات الرقمية أو في الواقع، تبدو هذه الطواطم المصنوعة يدويًا كاستدعاء إلى زمن آخر: جسمانيَّة صلبة تشغل المكان والوقت وتعيدنا إلى عالم اللقاءات المباشرة، قبل أن تصبح شاشات هواتفنا هي المسافات الفاصلة عنا وعن الشيء الحقيقي—رؤوس منحنيّة، وعيون موجهة نحو شاشة على بعد ثمانية عشر سنتيمترًا، عقولنا في الهواء، ووعينا مشتت عما يدور حولنا في العالم الواقعي.
على النقيض من ذلك، تجعلك تماثيل الفنان المقيم في بروكسل تتحرك حولها — أولًا لتتحقق ما إذا كانت الجوانب والخلفيات تختلف عن الواجهات، ثم لتتأكد من أن ذاكرتك للصورة الأولى لا تخونك. وأثناء دورانك حول العمل، تستدعيك القطع للاقتراب حتى تتذوّق كل تفصيل، فقد وفّر الفنان زخمًا من التفاصيل بسخاء يفوق ما اعتدنا عليه في الفن المعاصر والحياة العامة، التي هي بعيدًا عن أن تكون مدنية. وفي الوقت نفسه تشعر برغبة في التراجع وخوض رؤية شاملة للهيئة الكلية، خصوصًا إذا كانت من القطع التي تعلو فوقك وتدعوك أن ترفع نظرك نحو السماء.
ولعل أجمل ما في المعرض مشاهدة صفوف من الرؤوس الخزفية المكدّسة، والجرار، والعناصر المألوفة الأخرى—الوقوف وسط أعمدة لا تحمل شيئًا سوى فرحها اللعوب. كأنك دخلت غابة أشبه بالهلاوس حيث يُسمح لك أن تتجول في كل اتجاه، تسلك مسارك بين التماثيل الشجرية. هذه التجربه ليست كالتحديق في شاشة بالراحة بيدك؛ إنها ثلاثية الأبعاد، مستمرة، حية، تشاركية، وتحرّك الخيال إلى الفعل. لا زائران يتفاعلان مع غرفة مملوءة بهذه الأعمدة الاجتماعية بالطريقة نفسها، ولا زائر واحد يعيد التجربة ذاتها مرتين بنفس الشكل. التجربة عابرة—حاضرة ثم زائلة، مثل كل لحظة، ومع الزمن مثل كل واحدٍ منا.
في معرض ريتشارد هيلر، حيث عرض كروز معرضه الفردي الثالث في لوس أنجلوس، يحمل العمل عنوان “Monkey Puzzle” في إشارة إلى إحدى أكثر الأشجار ديمومة وتميّزًا على الكوكب: آراوكاريا آراوكانا. هذا الصنوبر المتين ذو الفروع الأفقية التي تنمو في دوائر ويغطيها أوراق مثلثة الشكل، يشبه درعًا أو جلدًا مدرعًا. في الأرقام يقف الشجرة بين المدرعيات والزواحف ذات الدروع: ليست كثيرة كالمدرعيات ولا منقرضة كالأخرى؛ هي نوع مهدد ومقصور على جنوب تشيلي وغرب الأرجنتين. أنواع مماثلة عمّرت العالم قبل مجيء الإنسان، لذا يُشار إلى شجرة الـMonkey Puzzle أحيانًا على أنها أحفور حيّ.
هذا توصيف موفق لأعمال كروز متعددة الأجزاء. فخزفاته، بعد تعرضها لحرارة الأفران الشديدة، تكاد تُحجر أو تُحفر كالآثار القديمة—كالعظام والأصداف والنباتات من العصور الغابرة. ومع أن هذه التماثيل ثابتة، مثل حراس لا يتزعزعون أو تمائم لا تلين، فهي تنبض بالحياة كرسوم متحركة؛ عيونها وأفواهها ووجوهها معبّرة ومليئة بالحيوية كما لدى أي إنسان. وبينما تشبه لقطات فيلم أو صور توقّف الحركة، يشعر كل منها وكأنه جزء من سردٍ مستمرّ تعثّرنا في منتصفه، ما يوحي بكمٍّ كبير من اللحظات السابقة والتالية—من خلفية ومعانٍ مستقبلية—لا نملك إلا أن نؤمن بوجود ما هو أكثر مما يُرى للوهلة الأولى، ويمكننا اكتشافه بالانتباه.
تتكوّن أبراج هذه التحف الخزفية على غرار شجرة الـMonkey Puzzle: باستثناء المكوّن الأعلى والأسفل، كل عنصر محاط بعنصرين. غالبية الأشياء والكائنات التي تشكّل أكوامه المتعددة تؤدي دورًا مزدوجًا: هي تماثيل قائمة بذاتها وقواعد لتماثيل أخرى في الوقت نفسه، تشدّ انتباهك إليها بوصفها نجم عرضها الخاص—وفي الوقت ذاته تعمل كأساس أو دعامة لما فوقها، كأنها تؤدّي أدوارًا مصاحبة في حفلة غنائية، وهكذا صعودًا وهبوطًا على طول العمود الغريبه. هكذا تبدو شجرة الـMonkey Puzzle: ما تراه هو الأوراق لا الفروع أو الجذع. من القاعدة إلى القمة، يمتص كل شبر من سطح الشجرة ضوء الشمس لعملية البناء الضوئي. وحين رآها محامٍ فيكتورى في حديقة زميله في كورنوال في خمسينيات القرن التاسع عشر قال: “لربما يحير قرد وهو يصعدها.” فظل الاسم.
التفكير اللغزّي هو بالضبط ما يفعله كروز في ورشته؛ حين يصوغ الأشكال والرموز والوجوه والوحوش والشخصيات التي تتعايش لتكوّن أعمدته الغريبة الشبيهة بما قد يذكرنا ببرانكوزي بعلاقة بعيدة. وهو نفسه خارج الورشة عندما يلتقط دفترا للرسم ويشرع في تخطيط نسخ متعددة من تلك الشخصيات والعناصر—مستمدة أحيانًا من أحلامه سواء اليقظة أو النوم العميق أو من ذاكرته لما رآه في متحف أو معرض أو كُنست هال؛ في كتاب أو فيلم أو كتالوج؛ مطبوعًا أو عبر الشبكة أو بعين مخيلته. وما تفعله تماثيله بنا هو إطلاقنا في رحلات غير مخططة ومبتكرة ومتعددة الاتجاهات—نتصفح أرصدة ذكرياتنا وتأملاتنا وخيالاتنا وروابطنا الطليقة وأفكارنا الناقصة لنوفر الغراء السردي الذي قد يجمع عناصره المتباينة—حتى تتحول خيمته من الشخصيات الغريبة وتراكم الدعائم إلى قصة ما أو سرد أقرب إلى التماسك المعقول.
لا يقتصر هذا السرد على قواعد العقلانبة الصارمة أو الإثبات القضائي؛ إنه شعري أكثر مما هو منطقي، استعاري أكثر مما هو حرفي. هذه التماثيل السردية المنفتحة تولِّد احتمالات بدلًا من أن تختزل كل شيء أو تتهّم النهايات؛ إنها تهدف إلى تحفيز الأفكار وبدأ المحادثات ورؤية الروابط الممكنة بين أزمنة وأمكنة متباعدة. والأهم أنها تبني على تلك الصلات والصدى والتقاطع لتشيّد جسورًا بين تاريخ وخر مختلفين وشعوب متباينة. ليس محورها البحث عن الشبه بيننا كليًّا، بل عن نسج روابط غير متوقعة عبر الزمان والمكان—روابط لا تقوم على الهوية أو الشبه، بل على القدرة على الوصول إلى ما يتجاوز مألوفك، لتصبح ربما شخصًا أو شيئًا آخر عما كنت عليه عند بدء النظر إلى هذه الطواطم التي توسِّع الأفق.
لذلك تباشر تماثيل كروز في التداول على التشابهات المبهمة. ربما، إلى حدٍّ ما، شيئًا ما يشبه شيئًا آخر—بدلًا من التشابه المطابق أو الحسم الدقيق—هي مصطلحات شغّالة عند مشاهدة أيٍّ من شخصياته الغامضة والمألوفة في آنٍ واحد، مرتبة واحدة فوق الأخرى. لمحة خاطفة في الصالتين اللتين عرض فيهما “Monkey Puzzle” تستحضر تماثيل من مصر القديمة، وأخرى من اليونان والرومان. وتنبثق أمامك أوعية ما قبل كولومبية، طقسية وعملية من أمريكا الوسطى والجنوبية، إلى جانب منحوتات خشبية من شمال غرب المحيط الهادئ (ما يعرف اليوم بكندا). وينطبق الأمر ذاته على مقتنيات ما قبل التاريخ، من العصر الحجري القديم والوسيط والحديث، التي تبدو غامضة في وظيفتها ويتضاعف أثرها لأننا لا نعرف عنها الكثير.
هذا هو ما يسعى إليه كروز: إحساس بالغموض يقطن الأشياء التي لا نفهمها تمامًا، شرارة حياة توقظنا حين نكون متنبهين وموصولين بحيويتها. “Monkey Puzzle” حجر عثرة يقود المتفرجين من كل المشارب عن المسار الذي سلكناه في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، نحو شيء مختلف—ليس جنة عدن، بالطبع، بل عالمًا تكتظ فيه الأحافير الحية بإمكانات أوسع من المعتاد، حيث السخرية واللعب هي أفضل السبل للمضي قدمًا.