إعادة إدماج المهارات الحِرَفية في صلب التعليم الليبرالي

د. يعقوب الإمام، مؤسس وعميد الشؤون الأكاديمية في كلية القديس يوسف العامل

لماذا أنشأنا كليةً يُدرَس فيها أفلاطون يوم الإثنين وتُعلّم فيها أعمال السباكة يوم الثلاثاء؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن تعليم الحِرف ينافس الفنون الحرة، وأن دراسة الكلاسيكيات تبدو كرفيقةٍ روحانيةٍ غريبةٍ إلى جانب المعرفة التطبيقية. فهل يستطيع فني تكييف الهواء الذي تأمل في الفروق بين الأوليغارشية والديمقراطية والطغيان والملكية أن يدخل مجرى الهواء ببراعة في هيكل بيتك؟

نحن مقتنعون بأنه يستطيع. قناعتنا في كلية القديس يوسف العامل أن الحرفي المتكوّن داخل تقاليد فكرية غنية يصبح حرفيًّا أفضل، وأن طالب الفنون الحرة يغدو أعمق حبًّا ومعرفةً بالحق حين يتعلَّم حبّ العمل اليدوي الصادق. الانصهار بين الفكر والعمل لا ينقص أيًا منهما؛ بل يزيد كل واحدٍ منهما قيمةَ الآخر.

طلابنا يصفون كليتنا غالبًا بشعورٍ محسوسٍ من العَفو عن حيرةٍ عمرها سنوات: نهاية المدرسة الثانوية لم تمنحهم حفلة تخرج فحسب، بل فرضت عليهم خيارًا قاسٍ — إما أن يكبتوا شغفهم في مناقشة أسئلة الوجود الكبرى من أجل مهنة، أو أن ينهلوا من التقليد الفكري الكبير دون معرفة إن كانوا سيجدون عملًا. لكن الشباب لا يحتاجون إلى إفراغ رؤوسهم ليمسكون بآلاتهم. كما أن اتقان الحِرف يمكّن من تشكيل المحيط المبني، فإن اتقان الفنون الحرة يتيح التراجع عن ضغوط اللحظة العملية للتأمل في أسئلة مثل: ما الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش؟ ما الواجب الذي يعين على السعادة؟ لأي غاية نعمل؟

نحن بحاجة إلى عمالٍ متفكّرين يستطيعون وضع جهودهم ضمن المسعى الجماعي لبناء مجتمعٍ عادلٍ وسعيد. دور كليات الفنون الحرة هو إنتاج مواطنين يتحمَّلون مسؤولية الكل. الأميركيون بطبيعتهم يَحْتَفِظون بشكٍّ تجاه النخب التي تدّعي أنها تقودنا نحو أهداف كبرى دون أن تنضم إلى الناس، وتعرّض يديها للعمل، وتخرج من بيننا لتقودنا. التعليم الشامل يمكّن من القيادة، ويُكمِّله تدريبٌ عمليٌّ يمنح الثقة من الآخرين.

يقرأ  قمة ألاسكا: ما الذي يُراهن عليه وما الذي يُخاطره كل طرف في حرب روسيا وأوكرانيا؟

القدرة على بناء العالم وإصلاح ما تعطب — قدرة تتجلّى في الحرفي الكفء — تغمر طلابنا بالثقة وبالوعي بقوتهم في تحسين حياة من هم تحت مسؤوليتهم. وهذه فرحةٌ نرى نقيضها في كثيرٍ من الكليات المعاصرة: كثير من الشباب لا يتخرّجون مزوّدين بمهارات نافعة وحياة عمل مُرضية، بل بحالة قلقٍ ناجمة عن افتقار الوسائل، وغياب الملكية، وتراكم الديون.

اعتبر توماس جيفرسون أن قوة جمهوريتنا تقوم على الفلاحين المالكين لذواتهم، الذين سمّاهم “أغلى المواطنين” لأنهم “الأكثر استقلالًا والأكْثر فضيلةً، مربوطون ببلدهم ومرتبطون بحريته ومصالحه بروابطٍ طويلة الأمد.” ولذات السبب قال جيمس ماديسون إن “حاملي الأملاك في البلاد سيكونون أوفياء حماةً للحرية الجمهورية.” العمل الشاق والحِرَف الماهرة توفّر الاستقلال المالي الذي يمكّن المواطن من ممارسة حريته، والابتعاد عن أنظمة الرقابة التي تُقيّد التفكير المستقل، والقيادة بشجاعةٍ وحكمة: العقول المستقلة تحتاج إلى وسائلٍ مستقلة.

في الوقت نفسه، يمنح التدريب في الفنون الحرة البنّائين رؤيةً فكريةً متماسكة لبناء العالم على نحوٍ جيد. طالب الفنون الحرة يحتاج مهارة عملية وفضيلة العمل الجيّد ليعي ويُجسِّد دعوة القيادة السياسية. عبر التاريخ كان العمل الجيّد جزءًا من أيام الناس، أما اليوم فغالبًا ما تنقطع علاقة العمال بتراثهم الفكري، كما أن طلاب الفنون الحرة يُجْزؤون عن تربية السِيرة التي يمنحها العمل الجسدي. لذلك، فإن الزواج بين الفنون الحرة والحرف ضروري لزهْوَر أمَّتنا وازدهارها.

الخلاصة: تعليمٌ جامع يجمع بين الفكر والعمل ليس ترفًا فكريًا ولا تراجعًا عمليًا، بل هو شرطٌ لخلق مواطنينٍ فعليين قادرين على البناء والإصلاح والقيادة بحكمة ورؤية. ان هذا هو المشروع الذي نسعى إليه في كلية القديس يوسف العامل.