أندريه بريتون: ما بعد البيان السريالي

غلاف كتاب «منظور الفارس: آخر المقالات 1952–1966» (2025) لأندريه بريتون، ترجمة أوستن كارتر (الصورة بإذن من دار City Lights Books)

ما علاقة السريالية —الحركة الفنية الكبرى في القرن العشرين— بما نسمّيه اليوم «سريالي» عندما نصف به كثيراً من مفارقات الحياة في القرن الحادي والعشرين؟ تعود أولى استعمالات كلمة «سريالي» إلى عام 1917 لوصف باليه لجان كوكتو ألحانه إريك ساتي وأزياءه التكعيبية من تصميم بابلو بيكاسو. أما اليوم فصارت الكلمة تصف مراكز احتجاز المهاجرين وأحياناً سياسات حكومية تبدو كأنها خرجت من عالم الأحلام أو الكوابيس. هل يشبه عالمنا المعاصر رؤى ليونورا كارينغتون وسلفادور دالي مجرد تشابه سطحي، أم أن العقل الأمريكي بصدد الوصول الى تقارب أعمق مع هذه الحساسية؟

للإجابة ينبغي العودة إلى أندريه بريتون، مهندس ومبشّر الحركة. في سن الثامنة والعشرين وضع بريتون عام 1924 بياناً أعلن فيه السريالية وعرّفها على أنها إظهار اللاوعي «في غياب أي ضابط يفرضه العقل». محاولته لاحقاً لاحتكار الحركة وإصدار بيانه السريالي الثاني اللاذع عام 1929 أفضت إلى تباعده عن زملائه بعدما ألمح إلى إمكانية طرده لمن خالفه. ومع ذلك لم يتوقف عن التفكير والكتابة والخطابة في شأن السريالية حتى وفاته عن سبعين عاماً.

في كتاب Cavalier Perspective: Last Essays 1952–1966، الذي ترجمه أوستن كارتر، يظهر لنا بريتون العجوز للمرة الأولى بوجه إنجليزي: ألطف وأكثر حكمة، وأقدر على تفكيك الأسس الأيديولوجية لحركة تحوّلت إلى ظاهرة عالمية. في كتاباته المتأخرة تبدأ أفكارُه عن «السريالي» بالتمازج مع أحاسيسنا الراهنة.

رغم أن السريالية باتت اليوم مرادفاً للاختلال واللاواقعي، إلا أن إحدى مفارقاتها أنها لم تحدد أبداً أسلوباً بصرياً موحّداً كما فعلت الفوفية أو الطبعانية. في مقال عام 1952 حمل عنوان «الرابط» شرح بريتون أن ذلك كان قصداً منه؛ السريالية لم تُخلق لتُقيّد في قالب جمالي محض. «حين شرعت أبحث منذ 1936 عن الحفّاز العاطفي للسريالية»، كتب، «وجدته فوراً في القلق الملازم لزمن تنهار فيه الأخوة الإنسانية يوماً بعد يوم». كان يقصد الفترة الفاصلة بين الحربين، حين استمرّت قوى «العقلانية» الصناعية، القومية المتفجّرة، والإمبريالية العالمية في زحفها مع تهديد دائم للعنف على الأفق.

يقرأ  أستراليا تطرد دبلوماسيين إيرانيين بعد اتهام الجمهورية الإسلامية بالوقوف وراء الهجمات المعادية للسامية الأخيرة

أمضى بريتون الحرب العالمية الأولى في جناح للأمراض العصبية في نانت، يعالج جنوداً يعانون مما نُسميه اليوم اضطراب ما بعد الصدمة. كما يذكر الشاعر جاريت كابلز في مقدمته الجيدة لكتاب Cavalier Perspective، فقد شاهد بريتون «بأم عينه آثار الأسلحة المتقدمة تكنولوجياً على نفسية الإنسان» فاستجاب ببُنية فكرية ذات طابع صوفي وثوري في آن واحد. ومع حلول الخمسينيات صار منهجه التحرري المضاد للعقلانية ذا بُعد ما بعد استعماريٍ واضح؛ وصف حرب الجزائر بأنها «مأدبة جرائم»، ودافع عن أعمال أيمي سيزير من مارتينيك وشعر كلومون ماكلوار سانت-أود من هايتي، وساهم في إذكاء حراك طلابي في هايتي.

في كتابه هذا يستكشف بريتون مضادّ العقلانية باعتبارها نزعة متاحة لكل الناس وقادرة على تآكل نظم منطقية تُطالب بالطاعة وتحتقر الخلق. مقالاته القصيرة في تلك الفترة تحتفي بالنجوم (علم التنجيم)، والكيمياء الوسيطية، ولعب الارتباطات اللفظية التلقائية، وبأشكال فنيّة عاطفية اعتبرتها المؤسسات الغربية السائدة «بدائية» —من شعر سلتي إلى الأقنعة الإفريقية. شدّ انتباهي بشكل خاص مقال «لغة الحجارة»، الذي يقترح أن بعض الحصى المصقولة تجذب الباحثين الحساسين إليها وقد تحتفظ حتى برسائل إلهية. تبدو النظرية اليوم مثل مزيج مألوف من روحانية عصرية طبيعية تسمّمها جنون تواصلي مع الشبكات التي تُصرّ على أنّ «كل شيء مترابط» — شعار ما قبل أن يُعلن بواضح العبارة.

مع ذلك يظلّ نصّ بريتون دعوةً للانفتاح على عالم يكسر ما سمّاه «الفقر العاطفي الجسيم الذي نعانيه اليوم». عَزَاه إلى التصاعد اليوماي للنفور من ما بعد التنوير والإيمان الأعمى بمناهج العلم الإيجابي وأنماط الحضارة الصناعية التي قلّمت الإنسان وأبعدته إلى عناصر صغيرة قابلة للاستبدال في منظومة منطقية مرتبة. ربما ما نُسميه اليوم «سريالياً» هو اللحظات التي تسقط فيها قناع تلك المنظومة لتكشف عن واقع أعجب، أقل قابلية للتوقّع، وأكثر تحوّلاً — القوى ذاتها لللاوعي التي طلب بريتون أن نستثمرها.

يقرأ  أربع مؤسسات ثقافية في نيويورك تحول مطار جون إف. كينيدي إلى فضاء فني

صدر كتاب Cavalier Perspective: Last Essays, 1952–1966 (2025) لأندريه بريتون بترجمة أوستن كارتر عن دار City Lights Books، ومتاح عبر الإنترنت ومن خلال المكتبات المستقلة.

أضف تعليق