في نيويورك يعود القديم ليصبح جديداً، وهذه الظاهرة تكررَت خلال السنوات الماضية. صالات العرض في أنحاء المدينة بدأت تُعيد تسليط الضوء بانتظام على فنّانات من الماضي الذين يستحقّون اهتماماً أكبر، وانضمّت إلى موجة توسيع القَـنونة الفنية بحماس. ولا تبدو هذه الصيحة وكأنها ستتلاشى قريباً، وربما لهذا السبب صار معرض Independent للقرن العشرين عنصرًا ثابتاً في موسم الخريف.
المعروض الآن في دورته الثالثة، معرض Independent للقرن العشرين أقلُّ ضخامةً من معرض أرموري، ذلك المعرض الضخم الذي يضمّ 230 صالة عرض ويُقام بالتوازي هذا الأسبوع. بالمقابل، يكتفي Independent بوجود نحو ثلاثين عارضاً فقط. يقام المعرض في مبنى باتري مارينا في الطرف الجنوبي لمانهاتن، وله تركيز محدّد: فنّ القرن العشرين، مع ميل واضح إلى إبراز الفنانات، والفنانين من مجتمع الميم، وفنّانات وفنانين من الجنوب العالمي الذين لم ينلوا بعد شهرة واسعة.
بسبب صغر حجم المعرض وجوّه المريح، وبسبب انطلاقه مع افتتاح أرموري، لم يكتظ حفل الافتتاح الخاص يوم الخميس بالجماهير حتى الأطراف. لكنّ هذا الهدوء منح الزوار فرصة مشاهدة أعمق وأكثر تأمّلاً.
ومن بين الحضور المبكّرين كان شخص بارز في مشهد نيويورك الفني: ماكس هولين، مدير متحف المتروبوليتان للفنون. شوهد وهو يتأمّل بوضوح جناحاً يحوي أعمالاً من الدرجة الأولى للرسّامة السريالية ليونور فيني؛ وحتى أنّه بدا مستغرقاً في النظر إلى بعض القطع، تشاهدهو بإعجاب. وفيما يلي عرض لأبرز خمسة أجنحة لفتت الانتباه.
ليونور فيني — معرض وينستين
نادرٌ وجميلٌ أن تصادف تحفة حقيقية خارج جدران المتاحف. تلك التحفة هي لوحة ليونور فيني «المنكَب» (1941)، التي تُظهر رجلاً نائماً تحت ملاءة وامرأة تحدّق فيه. الشكلان شبه عريانين، واللافت أن المرأة هي التي تحدّق، ما يجعل اللقاء مشحوناً بالتوتر؛ الرجل، بملامحه المطموسة والمتأرجحة بين الجنسين، يبدو خاضعاً ومستلقيًا، بينما المرأة تحتل موقع القوّة—ولست مبالغًا إذا قالت فيني نفسها إنها كانت تعتبر تلك المرأة «ثورة حقيقية». هذا النوع من الشدّ الجنسي متوقعٌ لدى السرياليين، لكن أهمية العمل تزداد لأن فيني كانت من النادرات اللواتي اخترقن الدوائر الداخلية التي غذّتها الحركة، والتي كانت في غالبيتها مهيمنة من الرجال. عرض مؤسس معرض وينستين، رولاند وينستين، هذه اللوحة في بينالي البندقية 2022 ويعرضها الآن للبيع بمبلغ 3.5 مليون دولار، ما يجعلها من بين أغلاى الأعمال المطروحة للشراء في نيويورك هذا الأسبوع. إلى جانبها قطع أخرى نادرة لغنى مجموعة فيني، منها قناع قطة مصنوع من الحصى.
لوسيا دي لوتشيانو — Lovay Fine Arts
هذه الفنانة الإيطالية، التي كانت أيضاً حاضرة في بينالي البندقية 2022 تحت إشراف سيسيليا أليماني، ارتبطت بحركة Arte Programmata في الستينيات، التي اعتمدت كثيراً على هياكل شبيهة بالشبكات. لوحات دي لوتشيانو في تلك الحقبة تمتلئ بشبكات متماوجة بالأبيض والأسود، مُنجَزة بدقةٍ تجعلها تبدو كأنها خرجت من آلة حاسبة أو كمبيوتر؛ والحقيقة أنها رسمتها يدوياً، ومن قرب تُرى ضربات الأكريليك وهي تتجاوز بخفة الحدود التي رسمتها لها أولاً. متعة هذه الأعمال تكمن في مشاهدة نظامها الصارم وهو ينهار تدريجياً إلى فوضى محكومة. وربما لهذا السبب، تستمر الفنانة التي تجاوزت الثالثة والتسعين في أداء ضرباتها المتكررة بحريةٍ أكبر. عمل بلا عنوان من 2024 يعرض سلاسل من الشُرَطات الزرقاء بعضها يتلوّى حتى يشكّل حلزونات.
لويس أوفرار — Calvaresi
عمل معروض في هذا الجناح يصوّر ورقة شجر بحضور غير مُقنِع، بحيث لا تلاحظ على الفور غرابتها. تحت الورقة تتجمّع حيوانات—خيل ربما—مرسومة على شكل بقع صغيرة في حقل بني اللون. لماذا هذه الورقة ضخمة إلى هذا الحدّ، ولماذا لا تلحظها الحيوانات؟ ربما لأن أوفرار حاول أن يصوّر المشهد ليس كما رآه بل كما تخيّله. ابن مهاجرين فرنسيين، أقام أوفرار معظم حياته الفنية في مدينة روساريو الأرجنتينية، وقضى مسيرة يُجسّد فيها المناطق الريفية المحيطة بالمدينة بأسلوب يذكّر بالانطباعية—هناك عمل هنا يصوّر مجموعات من أكوام التبن كتحية واضحة لسلسلة مونيه «الكمامات». ومع ذلك، تُظهر مجموعة هذا الجناح أن أوفرار كان أقوى حين ركّز بصره على خصوصيات الأرض، كما في لوحة «الفطر» (1983) حيث تنبت الفطريات من التلال العشبية في كلّ الاتجاهات.
بالراج خانّا — Jhaveri Contemporary
كتبت ابنته كوشاليا مؤخراً أن والدها «ينفخ طاقته في لوحته»، وقد كان ذلك حرفيّاً: خانّا كان يتنفّس فعلاً في أنابيب موضوعة قرب لوحاته، فينتشر اللون في بقع متناثرة. هذه العملية غير التقليدية تلمّح إلى أن لوحاته لا تنفصل عن جسده وتجربته الذاتية؛ ليست تجارب شكليَّة بحتة. وُلد خانّا في الهند ويعيش في بريطانيا، وتشير تجريدياته أحياناً إلى مناظر طبيعية إنجليزية؛ الأعمال هنا تعود إلى برك حديقة هامبستيد هيث في لندن. كتبت كوشاليا أن والده شعر بأن «اتصاله بالطبيعة تقلّص» بعد مغادرته البنجاب، الذي كان يوماً غنياً بالغابات؛ وفي تصويره التجريدي للمخلوقات التي تعيش تحت سطح البركة أعاد خانّا بعنف بعث علاقة حميمية مع المشهد المحيط.
أودوتيرس ريكاردو دي أوزياس — Danielian
لوحة بارزة في هذا الجناح تُظهر قطاراً يندفع نحونا، ومصباحه الأمامي يبعث بانفجار من الضوء عبر الليل الحالك. صانع هذه اللوحات، أودوتيرس ريكاردو دي أوزياس، كان يعرف القطارات جيداً—عمل لدى شركة سكك حديد برازيلية—ولقد شهد هذه المشاهد بعينه، مما منحها واقعيةً ومصداقية. حين بدأ في إنتاج هذه الأعمال، كانت المؤسّسات الثقافية السائدة في البرازيل تتجاهل كثيراً من وجهات النظر الفنية المشابهة لوجهة نظره. وُلد أوزياس في 1940 في يوجينوبوليس، بلدة زراعية في ولاية ميناس جيرايس، وهي ولاية تتميّز بوجود سكاني أسود كبير، وغالباً ما مثل عناصر من التجربة الإفرو-برازيلية، بما في ذلك طقوس كاندومبليه. على الرغم من بساطة لغته التصويرية، يبدو واضحًا أنه كان مُلاحظاً مُتقناً؛ لاحظوا نظرات الإيالوريخا (الكاهنات) في إحدى اللوحات: وبينما تواصلان عملهما، تلتفتان للحظة لتنظران إلى طائر أبيض يحلّق فوق رؤوسهن.