ثلاثون دقيقة أخيرة داخل برج بمدينة غزة اللحظات قبل القصف الإسرائيلي

مدينة غزة، قطاع غزة — صباح يوم الجمعة ظنّ أبو صلاح خليل أن أكبر همِّه ذلك اليوم سيكون تأمين لقمة العائلة التالية.

جلس أبو صلاح في غرفة معيشته بينما تتدارس ثلاث أجيال من عائلته كيفية إطعام الجميع.

تحوّل شقَّة الأب الأربعيني، أب لأربعة أولاد، في برج مشتها بغزة إلى ملجأٍ لأفراد العائلة: والديه المسنين، عائلة شقيقه، وزوجته وأطفاله — سبعة عشر شخصاً إجمالاً.

اتفقت العائلة على تحضير ماقلوبة من الخضار والأرز، لكن من دون لحم — لم يكن متوفراً. ستكون هذه وجبتهم الوحيدة في اليوم. أما ابن أخيه فكان يذاكر بقلق لامتحانات الثانوية العامة المقررة إلكترونياً في اليوم التالي؛ وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية قبل 22 شهراً سيخوض طلاب غزة هذه الامتحانات.

«استيقظنا على جو أسري عادي»، يستذكر أبو صلاح.

خرج ليشتري الخضار وعاد ليغلي القهوة على نار الحطب. وبينما كانوا يحتسون القهوة سمعوا صراخاً في الممر.

«فتحنا الباب نسأل عمَّا يحدث»، يقول أبو صلاح. «حينها وصلتنا الأخبار: البرج مهدد بالقصف».

لم يكن أمامهم سوى ثلاثين دقيقة لإخلاء المبنى.

في غزة، الشريط الساحلي الصغير والمكتظُّ بالسكان، بنى كثير من الفلسطينيين حياتهم في أبراج سكنية شاهقة.

واليوم، مع تصعيد القوات الإسرائيلية لهجومها للسيطرة على مدينة غزة، أصبحت الأبراج السكنية، التي تضم شققاً يسكنها عدد من العائلات النازحة، أهدافاً متكررةً تنهار في لحظات وتترُك سكانها بلا مأوى.

«الجيران كانوا يركضون»

كان برج مشتها المؤلَّف من 12 طابقاً أول الأبراج في مدينة غزة التي دمرتها القوات الإسرائيلية منذ يوم الجمعة.

يحوي كل طابق ثماني شقق — ملاذ عمودي لعائلات كثيرة نازحة مرات عديدة.

ما إن سمع أبو صلاح وعائلته بإنذار القصف حتى شرعوا يهرولون خارج المبنى. لم يتسن لهم جمع ممتلكات. وبما أنه لم تكن هناك كهرباء فلم تعمل المصعد، فاضطروا للنزول سلالم المبنى ستة طوابق.

يقرأ  «ست نقاط رئيسية من افتتاح قمة منظمة شنغهاي للتعاون»

فقد والد أبو صلاح قدرته على المشي بعد أن أصاب قصف مسكنهم السابق في شارع البحر والده بصدمةٍ عصبيةٍ وشلل. أما والدته فتعاني بطء الحركة لبلوغه السبعينات.

«حملت مع أخي والدي المعاق، بينما كانت زوجتي تساعد والدتي»، يروي أبو صلاح. «في تلك اللحظات كان الجيران يركضون والصراخ يملأ المكان، يبكي الأطفال والأمهات لا يدرين من أي طفل تحمله ومن أيها تسحبه».

لم يلتفت كثيراً إلى أمر أطفاله، الكبرى التي تبلغ تسعة عشر عاماً، والطفل الصغير، وهم ينزلون درج السلم المزدحم. «لا أدري كيف نزل أطفالي أو من حمل ابني ذو السنتين — كنت منشغلاً بوالدي وكيف أخرجه من البيت»، يقول.

بعد أن تجاوزت عائلته الخروج من البرج، أراد أبو صلاح العودة لأخذ طعام وملابس، لكن والدته منعته خوفاً من تجدد القصف وهو داخل. وبعد دقائق وصل التحذير الأخير عبر اتصال هاتفي لسكان البرج: المبنى سيتعرض للقصف.

«قصفوه مرة وبقي قائماً فحمدنا الله»، يستعيد أبو صلاح ذاك المشهد، ويذكر بكاء الناس ودعواتهم ألا ينهار البناء. كانت الأصوات مدوية. «لكن بعد دقائق جاء القصف الثاني فأزال البناية تماماً. تمنيت لو أستطيع أن أضم جدران البيت وأقول لها: اصبري وكوني شامخة، لا تؤثر فيك الصواريخ».

يقول أبو صلاح إن همه الوحيد كان إخراج عائلته بأمان، لكن عندما رأى البرج ينهار «بدأ جسمي يرتعش».

والآن تعيش عائلته في الشوارع. «في الليل لم نرقد من أثر الصدمة. كان أطفالي يكررون: أين سنبيت؟ ماذا نضع على الأرض؟ هل ننام على الأرض العارية؟»

«ننتظر مصير أطفالنا»

كان صباح السبت عندما كانت نادية معروف خارج خيمتها المؤقتة في حي تل الهوا قرب برج السوسي السكني. كانت تعجن وتطهو الفاصولياء مع زوجات أبنائها حين سمعوا أن قصفاً وشيكاً.

يقرأ  جبال القمامة في نيودلهي: قنابل حرارية تهدد جامعي النفايات في الهندأخبار البيئة

تدفق رجل يهرول في الشارع نادياً الناس: «برج السوسي مهدد بالقصف… أخلوا المنطقة».

نزحت نادية الخمسينية وعائلتها من بيت لاهيا شمالاً في مايو بعد أن دُمِّر بيتهم. «لم يبقَ لنا شيء»، تقول نادية بحزن. «بكثير من الصعوبة استطعنا شراء بعض أواني المطبخ ونصب الخيمة. كل شيء هنا غالٍ وإذا فقدناه لا نستطيع تعويضه».

عندما سمعوا بخطر القصف، بدأ ابنها الذي فقد ساقه في قصف سابق في بيت لاهيا «يصرخ: أخرِجوني من هنا… لا أريد أن أموت»، تقول نادية بصوت مختنق بالدموع.

«تركنا كل شيء وركضنا في الشوارع كالمجانين»، تتذكر.

«حملت حفيدي الصغير ذو العامين وبعض الملابس، وركضت في الشارع. كلُّ منا ركض في اتجاه مختلف — لم نعد نعرف شيئاً عن بعضنا. وأثناء الركض حملت طفلاً من الخيم المجاورة كان يبكي بيدي الأخرى».

كانت نادية تسكن مع سبعة عشر شخصاً من العائلة، وكانت «خائفة أن نكون قد نسينا أحداً داخل الخيمة… قلبي كان يتشقّق من الخوف».

لم تمضِ سوى نصف ساعة منذ سماعهم أن البرج مستهدف إلى أن وقع القصف، بحسب نادية.

«كنا ننتظر لنعلم مصير أطفالنا: هل خرجوا كلهم؟ هل أصيب أحد؟»

وعندما سُوِّي المبنى بالأرض وجدت نادية خيمتهم المدمرة. «بدأنا نحفر بأيدينا ونحرِّك الحجارة لنتحصّل على ما تبقّى من ممتلكاتنا. لم نعد نملك مالاً لشراء جديد».

غطّت الغبار والأنقاض المكان كله، ووجدت نادية صعوبة في التنفس عندما وصلت إلى الموقع.

«لا أعرف كيف ساعدتني قدماي على الركض والنجاة». «اهتز جسدي كله، حتى بدا نبض قلبي أعلى من هدير القصف.»

تصاعد الدخان وتطايرت النيران بينما كان مبنى سكني ينهار بعد غارة إسرائيلية على مدينة غزة؛ مشاهد صدمت السكان الذين وقفوا يتفرجون على أحلامٍ ومدى عمرٍ يُطوى في رمادٍ متصاعد.

يقرأ  الشرطة البرتغالية: ثلاثة مواطنين بريطانيين من بين قتلى حادث في لشبونة

«مدينة صغيرة»

في يوم الأحد أيضاً دُمّر برج الرويا. تنطق سارة القاطع بأن البرج — الذي صمّمه زوجها مهندس المعمار أحمد شماعة — لم يكن مبنىً جامدًا بل ذاكرة حية تنبض بكل لحظة عشناها.

كان البرج مرآةً لأحلام أحمد المعمارية لمدينة غزة: صرح يعتلي شوارع قائمة بالحياة، جامعات ومكاتب، وممشىٍ يفتح على الأفق البحري. منذ اللحظة الأولى التي رسم فيها خطوط التصميم، أراد واجهة عصرية تعكس روح المدينة؛ في كل زاوية كان يرى فرصة ليحكي حكاية جمال، ويختار الألوان بعناية فائقة.

كان له مكتب يطل على البحر في الطوابق، يحفظ هناك مشاريعه ورسوماته؛ تقول سارة إن روحه كانت معلقة بذلك المكان. لو شهد انهياره لَم يكن مجرد تحطّم حجارة، بل تكسُّر عمرٍ كامل ومسح لتاريخ شخصي تحت الركام.

خلال الحملة الأخيرة للسيطرة على مدينة غزة، دمّرت إسرائيل ما لا يقل عن خمسين مبنىً، بحسب الدفاع المدني الفلسطيني. تلك الأبنية لم تكن مجرد خيارات فاخرة أو قرارًا معماريًا، بل ضرورة مفروضة نتيجة ضيق المساحة وكثافة السكان، كما يوضح الكاتب الفلسطيني أكرم السوراني من غزة.

في قصيدةٍ أصبحت مُتداولة على وسائل التواصل، نعى السوراني فقدان تلك المنازل المكدّسة؛ وصف عائلاتٍ من خمسين شقةٍ تركت وراءها «مصعَدًا بألف قصة» وأشياء حياتهم — دمية باربي، رداء حمّام خلف باب الحمّام، طاولة نرد، فواتير الإنترنت. البرج، بالنسبة له، لم يكن مجرد بناء؛ كان حياً، حيَاة، حيـاتنا اليومية المتداخلة تحمل قصصًا في كل ركن.

نُشر هذا النص بالتعاون مع Egab.

أضف تعليق