روس أتكينز: الحرب الإسرائيلية في غزة ومسألة التناسب

روز أتكينز — محرر التحليل

شنّت القوات الإسرائيلية عملية عسكرية في غزة أسفرت، بحسب تقارير، عن عشرات الآلاف من القتلى، وتدمير آلاف المباني، وقيودًا شديدة على وصول المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية.

أُطلقت هذه العملية بعد هجوم واسع نفّذته حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، اجتاح القرى ونقاطًا عسكرية ومهرجانًا موسيقيًا داخل إسرائيل، وأسفر عن مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز 251 رهينة. لاحقًا خلصت هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى أن حماس ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.

في المقابل، قال رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو إن «لأي دولة الحق الطبيعي في الدفاع عن نفسها»، ورأى أن العملية العسكرية في غزة حرب مبرّرة تهدف إلى تحييد حماس وإعادة الرهائن إلى ذويهم. وأضاف في يناير 2024 أن «التزام إسرائيل بالقانون الدولي لا يتزعزع». ومع ذلك، فإن هذا الالتزام ما يزال خاضعًا لتدقيق متزايد.

منظمات حقوقية رائدة وبعض الدول تتهم إسرائيل بالتطهير العرقي وأفعال قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وهو ما ينفيه نتنياهو ويشجب مثل هذه الاتهامات بشدة.

مبدأ التناسب هو عنصراً أساسياً في كيفية تطبيق القانون الدولي على النزاعات المسلحة. كما بيّن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ذلك يعني أن «آثار الوسائل والأساليب الحربية المستخدمة لا ينبغي أن تكون غير متناسبة مع المصلحة العسكرية المرجوّة». BBC Verify التقت مجموعة من خبراء القانون الدولي للسؤال عمّا إذا كانت أعمال إسرائيل تُعد متناسبة، وجامعة الإجابات أفضت، بدرجات متفاوتة من اليقين، إلى أن الأفعال الإسرائيلية غير متناسبة — بعضهم حكم على مجمل سلوك الحرب، وآخرون ركزوا على أحداث الأشهر الأخيرة.

تقول البروفيسورة يانينا ديل من مدرسة بلافاتنيك للحكومة في أُكسفورد: «أجد صعوبة في تصور كيف يمكن وصف السلوك العسكري الإسرائيلي في غزة بأنه متناسب». وتؤكد الدكتورة ماريا فاراكي من كلية كينغز بلندن: «لا جدال في أن استعمال القوة في غزة كان غير متناسب». ويقول البروفيسور يفال شاني من الجامعة العبرية في القدس: «لم يعد بالإمكان اعتبار الحملة العسكرية متناسبة». أما البروفيسور آسا كاشر من جامعة تل أبيب، الذي شارك في صياغة مدونة أخلاقيات الجيش الإسرائيلي، فذكر أن عدد القتلى من غير المقاتلين «يبدو عالياً للغاية بحيث لا يمكن تفسيره بمقتضيات التناسب المعقولة».

كيف يُقيَّم مبدأ التناسب؟

يتشكّل القانون الدولي من سلسلة اتفاقيات وقعت عليها أغلب دول العالم، وتبيّن هذه الاتفاقيات ما يجوز للدول فعله وما يجب عليها الامتناع عنه؛ من بينها ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، وكلاهما طرفان في النزاع الحالي وذو صلة مباشرة بمسألة التناسب. إلا أن القانون الدولي ليس موضعًا واحدًا محكومًا بسلطة مركزية، ومعنى قواعده وتطبيقها موضوع لنقاشات واسعة.

يتناول القانون الدولي مسألة التناسب بطريقتين متمايزتين. الأولى على مستوى حق الدولة في الدفاع عن نفسها: يجب أن يكون الرد العسكري العام متناسبًا مع التهديد المطروح. وإذا، في أي مرحلة من العملية العسكرية، تبيّن أن الاستمرار لم يعد ضروريًا أو متناسبًا، يسقط حق الدفاع عن النفس. يجادل بعض المعلقين بأنه مع النجاح الذي أحرزته إسرائيل في إضعاف حماس، باتت العملية العسكرية تفوق التهديد الحالي الذي تشكله الحركة — وهذا أمر محل نزاع.

الطريقة الثانية تُقَيّم التناسب على مستوى كل عمل عسكري فردي، كغارة جوية على سبيل المثال: ينبغي أن يكون الأذى المتوقع على المدنيين أو الممتلكات المدنية متناسبًا مع الميزة العسكرية المتوقعة من هذا الإجراء بعينه. هنا تلعب النية دورًا محوريًا: ما مقدار الأذى المدني المتوقع؟ وهل تفوق الميزة العسكرية المتوقعة ذلك الأذى؟

من المهم التشديد على أن إلحاق الأذى بالمدنيين قصداً يشكل دائمًا خرقًا للقانون الدولي؛ ولا يمكن تقييده بمقاييس التناسب في هذه الحالة. كما أن القانون الدولي يقرّ إمكانية وقوع وفيات بين المدنيين أثناء عمليات عسكرية، لكنه يفرض دائماً التزامًا بالتقليل من الأذى المدني قدر الإمكان.

بناءً على ذلك، سواء على مستوى الرد العام أو على مستوى الأعمال الفردية، ثمة قواعد وحدود لما يُسمح به — ويجب أن يكون كل شيء متناسباً.

الخسائر بين المدنيين

وفق وزارة الصحة في غزة التي تديرها حماس، قُتل أكثر من 64,500 شخص خلال الحملة الإسرائيلية—ما يقارب نصفهم من النساء والأطفال. أرقام الوزارة لا تميّز بين مقاتلين ومدنيين. رفضت إسرائيل دقة هذه الإحصاءات، سواء على مستوى الإجمالي أو التقسيمات الديموغرافية، لكن الأمم المتحدة وهيئات أخرى تعتبر هذه الأرقام المصدر الأكثر موثوقية المتاح فيما يتعلق بحصيلة الضحايا.

قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخرًا إن «مستويات الموت والدمار في غزة لا مثيل لها في الأزمنة الحديثة». في بداية العام، أعلنت القوات الإسرائيلية أنها قتلت نحو 20,000 من عناصر حماس، لكن لم تُقدّم أدلة علنية، ولا تسمح بدخول حر للصحفيين الأجانب، بمن فيهم مراسلو بي بي سي، إلى غزة. كما أن جيش الدفاع الإسرائيلي لم يصدر إحصاءات مفصلة عن خسائر المدنيين.

من جانبه، يؤكد الجيش الإسرائيلي التزامه «بتقليل الأذى المدني أثناء النشاط العملياتي» وأنه يبذل «جهودًا كبيرة لتقدير ونأخذ بعين الاعتبار الضرر المدني المحتمل» عند تنفيذ الضربات. وتحمّل إسرائيل حماس مسؤولية معظم الخسائر المدنية جراء عملها داخل الأحياء السكنية، كما عرضت إسرائيل عدداً من المقاطع التي تزعم أنها تُظهر أنفاقًا لحماس تحت مبانٍ مدنية، بما في ذلك مستشفيات، وتقول إن الحركة تستخدم هذه الشبكات لتخطيط وتنظيم هجماتها.

القانونالدولي والاعتبارات العملية يضعان معايير يجب اختبار السلوك العسكري على أساسها، لكن الخلاف حول مدى امتثال الأطراف لهذه المعايير مستمر وفي صدارة النقاش الدولي. وصف بعضَ المُفرَج عنهم أنَّهم كانوا محتجزين في أنفاق.

أصدرت إسرائيل عدداً من الفيديوهات التي تُظهر—بحسب قولها—أنفاقاً تحت مبانٍ مدنية، بما في ذلك مستشفيات.

يقرأ  أستراليا تدرج ١٤ شخصًا على قوائم العقوبات بتهمة قمع المجتمع المدني الروسي

يرى البروفيسور نيكولاس روستو، المستشار القانوني السابق لمجلس الأمن القومي الأمريكي في عهد رونالد ريغان وزميل باحث متميز في الجامعة الوطنية للدفاع، أن «حماس استخدمت المستشفيات والمدارس… كقواعد للعمليات العسكرية، مما عرض المدنيين للخطر. كان ذلك مقصوداً من طرفهم». ولهذا السبب يقول روستو إنه «ليس مستعداً للقول إنّ إسرائيل تصرفت بشكل غير متناسب». ويضيف أنه يعرف كيف يعمل جيش الدفاع الإسرائيلي وأنه «يبذل قصارى جهده لاحترام قوانين الحرب».

ومع ذلك، حتى لو صح ذلك، فإن إسرائيل قد أزهقت أرواح عشرات الآلاف من الناس.

الدكتور نمر سلطانِي، رئيس تحرير “سنة فلسطين في القانون الدولي” ورئيس مركز دراسات فلسطين في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، يحسمُ المسألة. «حملة إسرائيل كانت غير متناسبة منذ أكتوبر 2023 بسبب الضرر المدني غير المسبوق الذي سببته في غزة»، هكذا قال لنا.

ويؤكد جيري سيمبسون، أستاذ القانون الدولي العام في كلية لندن للاقتصاد، مستنداً إلى أعداد القتلى والآثار الأخرى على غزة، أنّه «من الصعب الجديّ الادعاء بأن الحملة نفّذت مع مراعاة مبادئ التناسب والتمييز الجوهرية في قوانين الحرب».

الوصول إلى الغذاء

يُعدّ تأثير العمليات على ظروف معيشة السكان عاملاً أساسياً عند تقييم تناسبية رد إسرائيل العام.

تقييد إسرائيل دخول السلع إلى غزة ليس أمراً جديداً؛ فقد كان قائماً قبل 7 أكتوبر وتزايد بعد الهجوم. وفي أوائل مارس من هذا العام بدأت إسرائيل حصاراً شاملاً للمساعدات إلى غزة، زاعمةً أنها تفعل ذلك لمنع سرقة حماس للإمدادات واستخدامها «لتمويل آلة الإرهاب»—وهو ما تنفيه حماس.

وقد أدانته الأمم المتحدة والعديد من الدول. واتهم كبار مسؤولي الأمم المتحدة إسرائيل باستخدام الغذاء كسلاح حرب، وهو جريمة بموجب القانون الدولي؛ ولا يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تُعتبر متناسبة.

وتقول البروفيسورة ماري إيلين أوكونيل من جامعة نوتردام: «لا يجوز أبداً استخدام التجويع ضد المقاتلين أو السكان المدنيين. يجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى السكان المدنيين. هذا مبدأ من قواعد العرف الدولي. لا يمكنك استخدام التجويع؛ هناك أسلحة لا يجوز استعمالها إطلاقاً».

ونفى بنيامين نتنياهو أن تكون إسرائيل تستخدم الغذاء كسلاح. كما اتهمت الأمم المتحدة إسرائيل بأنها «تفرض عمداً وبدون خجل ظروفاً لا إنسانية على المدنيين»، وتنفي إسرائيل ذلك أيضاً.

في مايو، خففت إسرائيل جزئياً الحصار وطرحت نظاماً جديداً لتوزيع الغذاء تديره مؤسسة تدعمها الولايات المتحدة وإسرائيل باسم “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF). وقد طالبت أكثر من مئتي جهة خيرية ومنظمة غير حكومية بإغلاق هذه المؤسسة، قائلةً إن القوات الإسرائيلية وجماعات مسلحة «تفتح النار روتينياً» على من يسعون للحصول على المساعدات.

وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من ألفي شخص قتلوا قرب مواقع القوافل والمساعدات خلال الأشهر الأخيرة، وفي أغسطس رأت أن معظم هذه القتلى كانوا نتيجة أعمال الجيش الإسرائيلي—وهو ما تنفيه إسرائيل. وتؤكد إسرائيل أن نظام GHF يقدّم مساعدات مباشرة لمن يحتاجها متجاوزاً تدخل حماس، ومع ذلك فإن كثيرين ممن يحتاجون المساعدة لا يحصلون عليها.

التقييم الأخير من مرصد الجوع العالمي المدعوم من الأمم المتحدة (IPC) يشير إلى أن ربع الفلسطينيين في غزة يعانون من المجاعة. ووصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذا التقييم بأنه «تقرير مفصّل مفبرك ليناسب حملة حماس الزائفة». وقد أصدر الـIPC رداً يدافع فيه عن منهجيته.

وتقول وكالات الإغاثة وكبار مسؤولي الأمم المتحدة والحكومة البريطانية وآخرون إن المجاعة والتجويع في غزة هما نتيجة أفعال إسرائيل. وتبرر إسرائيل تغيير نظام المساعدات بأنه جزء ضروري من جهودها لهزيمة حماس. ولكن حتى لو صح هذا—وهو محل خلاف شديد—فبصفتها القوة المحتلة حالياً، تتحمل إسرائيل التزامات بموجب القانون الدولي تجاه المدنيين في غزة، بما في ذلك توفير وصول كافٍ إلى الغذاء.

وينفي نتنياهو وقوع أي تجويع ويرمي بالمسؤولية على جهات الإغاثة وحماس.

تدمير المباني

يتضمّن الضرر المدني الناتج عن العملية الإجمالية أيضاً تدمير المباني وإلحاق أضرارها.

في مايو أعلن وزير المالية اليميني المتطرف يتسحاق سموترتش أن «غزة ستُدمَّر تماماً». ويبدو أن ذلك يقترب من التحقق. وتُقدّر الأمم المتحدة حالياً أن ما يصل إلى 42% من المباني في قطاع غزة قد دُمّرت و37% أُصيبت بأضرار.

وتؤكد البروفيسورة إميلي كروفورد، المتخصّصة في القانون الإنساني الدولي بجامعة سيدني، أن «التدمير الكامل للبنية التحتية الضرورية لبقاء السكان المدنيين… هو أمر واضح أنه غير متناسب».

التدمير هو ما يُهدَّد به؛ ففي أغسطس أشار وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس إلى احتمال شن هجوم على مدينة غزة. نشر على وسائل التواصل مطالبًا بأن تُفرج حماس عن الرهائن وتُسلِّم سلاحها؛ وصرّح قائلاً: «إذا لم يوافقوا، ستصبح غزة، عاصمة حماس، مثل رافح وبيت حانون».

هاتان مدينتان دمّرتهما إسرائيل حتى صارتا أنقاضًا.

تقول الأمم المتحدة إن نحو 80% من المباني في قطاع غزة تعرضت لأضرار أو دُمرت بالكامل.

إضافة إلى تدمير وتخريب المباني أثناء هجماتها، يشير تحليل بي بي سي للتحقق إلى أن إسرائيل دأبت أيضًا على تدمير مبانٍ بشكل منهجي في المناطق التي تسيطر عليها.

الجيش الإسرائيلي يقول إن «تدمير الممتلكات لا يُنفَّذ إلا عندما تقتضي ضرورة عسكرية ملحة».

وتعتبر إسرائيل أن «الضرورة العسكرية» الشاملة لعملها ليست مجرد إضعاف كبير لحماس، بل هزيمتها الكاملة. كتب القاضي السابق في المحكمة العليا البريطانية، اللورد سومبشن، في مقال حديث: «ربما لا يمكن تدمير حماس بأي قدر من العنف، لكنه بالتأكيد لا يمكن أن يتحقق من دون أثر بالغ ومتناسب عشوائي على حياة الناس».

وقال اللورد سومبشن لنا إن إسرائيل خلصت إلى أنه «لا حد للدمار والخسائر البشرية التي يمكن أن تتسبب بها، طالما أنها ضرورية لهزيمة حماس». وأضاف: «هذا واضح أنه خطأ».

يقرأ  المتحدث باسم قوات الدفاع الإسرائيلية: تحضيرات لنقل السكان إلى جنوب قطاع غزة

ويشير خبراء آخرون إلى أن التقييمات القانونية الإسرائيلية منحت الحكومة هامشًا واسعًا في سلوكها. يرى الدارس نمر سلطاني أن إسرائيل «استندت مرارًا إلى تفسيرات متطرفة ومتساهلة للغاية لقوانين النزاع المسلح، بما في ذلك مسألة التناسب، تجعلها في تناقض مع المنطق السليم والفهم المعتمد للقانون الدولي».

إسرائيل تصرّ على أنها تلتزم بالقانون الدولي وتطبّقه بالشكل الصحيح. طلبت بي بي سي للتحقق من الحكومة الإسرائيلية نسخة من المشورة القانونية أو ملخصًا يبرر رأيها القائل إن ردها العسكري العام على 7 أكتوبر كان متناسبًا، ولم تتلقَّ جوابًا.

تقييم الهجمات الفردية

كما ذُكر سابقًا، تتناول القاعدة الثانية في القانون الدولي مسألة التناسب على مستوى الأفعال الفردية داخل النزاع: هل الضرر المتوقع على المدنيين والمباني المدنية من فعل معين يتناسب مع المكسب العسكري المتوقع المرجو؟

في هذا النزاع، كان استهداف إسرائيل لأفراد من حماس — وما نتج عنه من سقوط ضحايا مدنيين — محور اهتمام كبير. على سبيل المثال، في 27 يونيو قُصِف موقع قرب ملعب فلسطين في مدينة غزة، استهدف ما أسمته إسرائيل «شخصًا مريبًا يشكل تهديدًا لقوات الجيش العاملة في شمال القطاع».

الجيش قال لبي بي سي للتحقق: «الجيش ضرب إرهابيًا من حماس. وقبل الضربة اتُّخذت خطوات للتقليل من مخاطر إلحاق الأذى بالمدنيه قدر الإمكان». وفقًا للإسعافيين وشهود العيان، قتل ما لا يقل عن 11 شخصًا، بينهم أطفال، في تلك الضربة.

ويقول الجيش إن لديه آليات شاملة «لضمان الامتثال لقانون النزاع المسلح»، ويُزوَّد القادة العسكريون الكبار ببطاقات استهداف تُسهِم في إجراء تحليل يُقيَّم حالة الضربة تلو الأخرى، مع احتساب الفائدة العسكرية المتوقعة والاضرار المدنية المحتملة. لكن سير جيفري نايس، محامٍ ومدعٍ سابق لدى الأمم المتحدة، يرى أن «عدد الفلسطينيين الأبرياء الذين قتلوا يبدو من الصعب جدًا تبريره بالبحث عن شخص من حماس، مهما علا مقامه».

نُشِرَت وثيقة من رابطة المحامين البريطانية المؤيدة لإسرائيل تذكر أنه «من المستحيل تقييم ذلك من دون الاطلاع على المعلومات التي كانت بحوزة قادة الجيش في ذلك الوقت». إسرائيل لا تكشف عن تفاصيل قرارتها بشأن الضربات الفردية، لذا يظل التقييم صعبًا، لكن نمط الضربات الفردية يتيح فهمًا لأسلوب حسابات إسرائيل. «العبء الآن على [إسرائيل] لإثبات أن تلك الضربات كانت متناسبة»، كما يقول سير جيفري.

الحق في الدفاع عن النفس

تستند حملة إسرائيل إلى تأكيدها حق الدفاع عن النفس، المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة — «الحق الفطري للدفاع الفردي أو الجماعي إذا وقع هجوم مسلح».

يتصل هذا الحق بطريقة التناسب الأولى في القانون الدولي: السؤال المطروح هو، عندما يُعترف بالحق في الدفاع عن النفس، هل الرد العسكري العام يتناسب مع التهديد الذي يُردّ عليه؟

بعد 7 أكتوبر مباشرة، أكدت دول عدة، منها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وفي مذكرة مختصرة حول التناسب في الحرب، تجادل منظمة UK Lawyers for Israel بأن «لإسرائيل الحق، دفاعًا عن نفسها، في دخول تلك الأراضي [غزة] لتفكيك تلك المنظمة [حماس] ومنعها من تكرار هدفها القاتل».

يقول البروفيسور نيف جوردون من جامعة كوين ماري بلندن، مؤلف كتاب «احتلال إسرائيل»: «أعتقد أنه واضح لكل من لديه عينان أن حماس شنت هجومًا عنيفًا في 7 أكتوبر وارتكبت مجازر راح ضحيتها مئات المدنيين، وأعتقد أن معظم الدول كانت سترد على هجوم من هذا النوع». لكنه يضيف أن الوضع من الناحية القانونية يبقى معقّدًا. في الواقع، شدد العديد من الخبراء الذين تحدثنا إليهم على أن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، محل خلاف وجدل.

تظهر في التقارير أيضًا صور جنازات ومشاهد خسائر مدنية، كما نقلت تقارير عن جنازة جندي إسرائيلي قُتل في اشتباكات مع مسلحين من حماس في إحدى الكيبوتسات، وتستمر آراء المقرِّرين الأممين المختصين — مثل فرانسيسكا ألبانييز، المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة — في إلقاء الضوء على جوانب الحقائق الإنسانية والقانونية المتشابكة. فرانشيسكا ألبانيزي تُعدّ من أشدّ النقّاد لأفعال إسرائيل، وقد مُنعت من دخول البلاد بعد تصريحات وُصفت بأنها “قمع إسرائيلي” صدرت عقب أحداث 7 أكتوبر.

قالت ألبانيزي إن إسرائيل “قلبت ممارسات التمييز والضرورة العسكرية والاحتياطات ومبدأ التناسب في القانون الدولي رأساً على عقب”.

فيما يتعلق بالدفاع عن النفس، تستند إلى رأي استشاري لمحكمة العدل الدولية عام 2004، مفاده عدم جواز ادعاء حق الدفاع عن النفس ضدّ شعب يخضع لاحتلال من قبل الدولة المدعية.

ترفض إسرائيل هذا الطرح وتؤكد أنها لم تكن تحتل غزة قبل 7 أكتوبر لأنها سحبت قواتها ومستوطنيها عام 2005. ومع ذلك، لا تزال الأمم المتحدة تعتبر غزا أراضيً محتلة، بحجة أن إسرائيل احتفظت بالسيطرة على المجال الجوي والشاطئ ومعظم الحدود البرية. ورأى رأي استشاري للمحكمة العام الماضي أن احتلال إسرائيل لقطاع غزة لم ينتهِ في 2005، وأن احتلال الأراضي الفلسطينية مخالف للقانون.

وضع غزة قبل 7 أكتوبر مهم لبحث مدى تطبيق حق الدفاع عن النفس، بحسب البروفيسور رالف وايلد من كلية الجامعة بلندن، الذي مثّل دول الجامعة العربية أمام محكمة العدل الدولية العام الماضي في قضايا تتعلق بإسرائيل والأراضي الفلسطينية. قال وايلد: “استخدام إسرائيل للقوة بعد 7 أكتوبر لم يكن استخداماً جديداً للقوة، بل استمراراً لاستخدامٍ قائم مسبقاً، مع تصعيده إلى مستوى متطرّف؛ لذا فهو استمرار في استخدام غير مشروع للقوة.”

ثمة سبب ثانٍ يجعل بعض الناس يشكّكون في ان حق الدفاع عن النفس ينطبق على أحداث 7 أكتوبر: تؤكد فرانشيسكا ألبانيزي ان هذا الحق يقتصر، في نظرها، على هجمات تنفذها دول أخرى. لكن عدداً من خبراء القانون الدولي الذين تحدثنا إليهم اختلفوا مع هذا الرأي. لورد سومبشن وصف الموقف بأنه “يكاد لا يقبل الجدال”. والبروفيسور كروفورد من كلية القانون بجامعة سيدني أوضح أن “منذ هجمات 11 سبتمبر، راحت دول كثيرة تقبل بأن حق الدفاع عن النفس بمقتضى القانون الدولي يمتد ليشمل استخدامات القوة ضد الدولة من قبل فاعلين غير دوليين”. بعبارة أخرى، يُطبق ذلك على حماس وعلى أحداث 7 أكتوبر.

يقرأ  انضمام أكثر من عشرين دولة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في رفض خطة إسرائيل غير القانونية للاستيطان في منطقة إي-١أخبار القدس الشرقية المحتلة

هذا الخلاف مهم لاعتبار ما إذا كان ردّ إسرائيل ككل يُعدّ فعلاً متناسباً للدفاع عن النفس. وفي هذا السياق أضاف جيري سيمبسون، أستاذ القانون الدولي العام في كلية لندن للاقتصاد، أن “حتى ولو كان لإسرائيل حق الدفاع عن النفس، فقد جرى ممارسته بشكل غير متناسب”. من جهته يرى البروفيسور كاشر من جامعة تل أبيب أن الحق في الدفاع عن النفس يستمر طالما أن حماس تشكل تهديداً لإسرائيل وسكانها: “الدفاع عن النفس مبرّر طالما أن الهدف دفاعي.” لكن ما إذا كان هذا هو الهدف الفعلي محل خلاف واسع.

أهداف إسرائيل

في مايو أعلن وزير المالية بيزاليل سموتريتش أن هدف بلاده هو “تدمير كل ما تبقّى من قطاع غزة”. وتحدث أيضاً عن “احتلال وتطهير والبقاء في غزة حتى تدمير حماس”. في يوليو اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي إعادة توطين كامل السكان الفلسطينيين في مخيم في جنوب القطاع، بحسب وسائل إعلام إسرائيلية. وكانت الأمم المتحدة قد حذّرت سابقاً من أن النقل القسري لمدنيي إقليم محتَل “يساوِي التطهير العرقي”. مقترح “المدينة الإنسانية” نوقش في مجلس الوزراء الإسرائيلي، لكن لم تُعلَن خطط تنفيذية علنية.

التصريحات والاقتراحات والأفعال الإسرائيلية أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت الأهداف والتصرفات تتجاوز إطار الدفاع عن النفس. تقول البروفيسورة نيف غوردون من جامعة كوين ماري: “هذه ليست حرباً هدفها الهزيمة؛ إنها حرب هدفها الدمار.” ويضيف جيري سيمبسون أن “الردّ الإسرائيلي يبدو أقرب إلى انتقام، أو استمرار لمسار طويل من محو الهوية الفلسطينية، منه إلى ما يمكن تسميته ‘دفاعاً مشروعاً عن النفس’.” وتقول البروفيسورة يانينا ديل: “إذا استمعنا إلى الأجهزة الأمنية وصانعي القرار الإسرائيليين، فعلينا أن نفهم أن إضعاف حماس لم يعد بعد الآن، أو ليس في المقام الأول، الهدف الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه في غزة.”

ترفض إسرائيل مثل هذه الادّعاءات. وصرّح الجيش الإسرائيلي لبرنامج BBC Verify بأن “المنظمات الإرهابية في قطاع غزة تنتهك نظاماً القانون الدولي وتنفّذ عمداً عمليات عسكرية من داخل المجتمع المدني. سيواصل الجيش العمل ضد هذه المنظمات متى وحيث كان ذلك ضرورياً.”

قضية تستدعي مساءلة؟

في أواخر 2024 أصدرت قاضية في المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد رئيس الوزراء نتنياهو بذرائع وجود أسباب معقولة للاشتباه بمسؤوليته الجنائية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية المزعومة في حرب غزة. كما أصدرت المحكمة مذكرات توقيف لوزير الدفاع السابق يوآف غالانت وقائد حماس العسكري آنذاك محمد الضيف، الذي تقول إسرائيل إنها قتلته لاحقاً.

ووصف نتنياهو القرار بأنه معادٍ للسامية، ثم فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أربعة من قضاة المحكمة، بزعم أن المحكمة مسيسة. كما طالت عقوبات أخرى مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية وموظفة الأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي.

في 2023 رفعت جنوب أفريقيا قضية أمام محكمة العدل الدولية تزعم ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية؛ وأعلنت إسرائيل أن الاتهام لا أساس له. القضية لا تزال جارية. العدالة الدولية غالباً ما تعمل على مدى سنوات وعقود، وليست آليات فورية تُجري تحقيقات داخل الحرب أو بعدها بسرعة. هناك حدود لما يمكن أن تفعله المؤسسات الدولية أثناء النزاع وبعده، والعداء الأميركي لمذكرة توقيف نتنياهو يُظهر أن لإسرائيل دعماً كبيراً من قوة عالمية.

ومع ذلك، مع مرور الزمن تستطيع المؤسسات التي تطبّق القانون الدولي أن تصدر أحكاماً حاسمة. لتلك الأحكام أهمية كبيرة، كما أن القواعد نفسها مهمة؛ فهي المعايير التي اتفقت معظم الدول على أن تحدّد ما يجوز وما لا يجوز في سلوكها، رغم كل قصورها. وبالتالي، تظل هذه العوامل ذات وزن كبير وتأثير ملموس.

ترى الغالبية العظمى من الخبراء الذين أجرينا معهم مقابلات أن أفعال إسرائيل، كلياً أو جزئياً، لم تكن متناسبة، لا سيما إذا ما نظرنا إلى طبيعة عمليتها الشاملة. ويتوصل هؤلاء الخبراء إلى هذا الحكم لأسباب مختلفة وبدرجات متفاوتة من الثقة.

قال البروفيسور أوكونيل من جامعة نوتردام: «هناك قواعد، ولا يتم الالتزام بها».

من جهته، يرى البروفيسور يوڤال شاني من الجامعة العبرية في القدس أن ثمة حجة مفادها أن إجراءات إسرائيل بدت متناسبة في البداية، إلا أنه «يبدو أن نقطة قد تم تجاوزها بحيث أضعف حماس إلى حدٍّ يجعل استمرار الحملة العسكرية لم يعد صالحاً لأن يُنظر إليه على أنه تصرّف متناسب، بالنظر إلى اتساع نطاقه وحجمه وتداعياته».

وقال البروفيسور هوفل من كلية لندن للاقتصاد لهيئة الإذاعة البريطانية: «التناسب في القانون الدولي أداة غير دقيقة إلى حدٍّ ما، وفي كثير من النزاعات الحديثة يصعب تطبيق هذا المعيار. لكن في غزة، للأسف، تبدو الصورة واضحة بشكل صارخ. كانت حملة إسرائيل غير متناسبة بشكل فاضح».

وفي الوقت نفسه، يستمر الصراع؛ فحماس، رغم تراجعها الكبير، لا تزال تقاتل وتحتجز رهائن وتواصل إنكار حق إسرائيل في الوجود.

تؤكد إسرائيل أنها التزمت بالقانون الدولي طوال هذا الصراع وأن أفعالها كانت متناسبة. ومع ذلك، فإن ما يقرب من جميع الخبراء الذين تحدثنا إليهم غير مقتنعين بذلك.

تقرير إضافي: جيميمه هيرد لا يتوفر نصّ لإعادة الصياغة أو الترجمة.
الرجاء تزودي بالمحتوى المراد معالجته.

أضف تعليق