مخاوف غزة الكبرى لم تعد القنابل بل «المدن الإنسانية» — حقوق الإنسان

ظننا أن العودة إلى المنزل ستحكم نهاية الكابوس.

بعد أشهر من الهروب من القصف، والنوم في خيام أو في مدارس أو تحت أغطية نايلون مؤقتة، عادت كثير من العائلات إلى ما تبقى من منازلها في شمال غزة خلال وقف إطلاق نار هش في كانون الثاني/يناير 2025. الطرق كانت محاطة بأنقاض، وبيوتنا بدت كأصداف متهدِّمة، والأحياء غير قابلة للتعرّف. ومع ذلك حملنا معنا أملاً هشًّا: بأنّنا بعودتنا إلى أرضنا، حتى بين الركام، نطالب بحياتنا مرة أخرى.

لكن لم تمضِ أيام على عودتنا حتى لاحقنا عناوين الصحف. ظهرت مفردات مثل «نقل جماعي»، «مدن إنسانية» و«ترحيل سكاني»، مما أوحى أنّ آخر ما ينتظرنا ليس ما تبقى من بيوتنا بل مخيمات خاضعة لسيطرة عسكرية في جنوب غزة البعيد، حيث اجتاح الجيش أحياء سكنية كاملة وحولها إلى صحراء مسطّحة.

لبعض الخارج، تُقرأ هذه التقارير كجدالات سياسية بعيدة. بالنسبة لنا، تصل كتهديدات. كل تصريح جديد يبدو كمسوَّدة لنفي جديد. الفكرة أن الجيش قد يجمع مئات الآلاف منا مخيفة لأننا نعرف كيف ستكون تلك «المدن»: مجمعات مكتظّة، نقاط تفتيش تتحكم بالحركة، توزيع طعام ومياه تحت حراسة مسلّحة — إن وصلنا شيئًا — بلا حرية تنقّل، وبلا ضمان للرحيل.

العائلات التي أنهت مسح الغبار عن أرضيات منازلها المدمّرة تهمس الآن إن كان من الحكمة إبقاء الحقائب نصف معبأة، استعدادًا للفرار مجددًا. الأطفال الذين بدأوا بالكاد يعتادون النوم في أسرتهم بعد شهور من الغياب، يسمعون كلمة «ترحيل» فتبكيهم. كلنا نعي مغزاها: جولة جديدة من الإذلال، ومحو آخر لما تبقّى من حياة شبه طبيعية نحاول أن نركّبها من شظاياها.

أما الحياة في شمال غزة فصارت أصلاً صعبة للغاية. الماء والكهرباء نادران، والأسعار مرتفعة والمواد الغذائية غالبًا غير متاحة. العائلات تعيش بين الحطام وتسد الثغرات بأغطية نايلون. ومع ذلك، يتمسّك الناس بكرامة البقاء على أرضهم.

يقرأ  المجلس العسكري في بوركينا فاسويبعد مسؤولاً أممياً رفيع المستوى على خلفية تقرير بشأن حقوق الأطفال

لكن تلك الكرامة الهشة يخيّم عليها احتمال أن تتلاشى كليًا. كل محاولة لإعادة الإعمار — سقف مُصلح، حديقة أعيد غرسها، محل أعيد فتحه — تبدو مؤقّتة. الآباء يتساءلون: هل نستثمر في ترميم البيت إذا كنا قد نُجبر على المغادرة مجددًا؟ الطلاب يدرسون بشموع ويتساءلون: من أي مدرسة سأحمل شهادة التخرّج إن نُقلنا غدًا؟ كل لحظة من «الطبيعي» قد تقطعها فجأة مطالب الجنود بالمغادرة.

كيف ستكون الحياة في تلك المخيمات؟ الفكرة وحدها تسرق منا النوم. نتصوّر طوابير طويلة من أجل لقمة، اعتمادية على حصص عبر بطاقات تموينية لكل وجبة. نتخيّل خيامًا مصطفة في صفوف، بلا خصوصية، عائلات تتقاسم المساحات مع غرباء ونساء يخشين على سلامتهن في ظروف مكتظّة. نتخيل جنودًا يسيطرون على البوابات، يقررون من يدخل ومن يخرج، ويراقبوننا بكاميرات وبرج مراقبة.

بالنسبة للاطفال، سيكون ذلك نشأة بلا صفوف يعرفونها، بلا شوارع تحمل ذكرياتهم؛ ملعبهم المقترح سيكون قطعة ترابية مسورة. للشباب سيعني ذلك تقويض فرص التعليم والعمل؛ داخل المخيمات تتقلّص الحياة إلى إدارة البقاء. وللمسنّين، سيعني ذلك الموت بعيدًا عن البيوت والأشجار التي زرعوها بأيديهم.

هذه مخاوف ليست نظرية؛ تتطابق مع ما وثّق في مناطق النزوح ومع تحليلات خبراء القانون. كتابات في منصات مثل JURIST ومجلس العلاقات الخارجية تشير إلى أنّ الدخول إلى مثل هذه المخيمات سيجعل المغادرة مقيدة بشدّة، والحياة رهن توزيع المساعدات. وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية حذّرت أيضًا من أن عمليات نقل جماعي تحت إشراف عسكري قد تشكّل نقلًا قسريًا.

خطورة هذه المقترحات ليست فقط في المعاناة المادية، بل في القسر الذي توحي به بالبقاء الدائم. التاريخ علمنا أن «مؤقت» يتحول إلى دائم؛ خيمة تُنصب «لوقتٍ مؤقت» قد تصبح علامة نفي لعقود.

يقرأ  أفضل ٥ مقالات الضيوفيوليو ٢٠٢٥

ولهذا فإن الخوف اليوم أثقل مما دمرته القنابل. القنابل تهدم المدن وتزهق الأرواح، لكنها لا تقطع صلتنا بالأرض. الترحيل القسري يقتلعنا نهائيًا.

فقدان المنزل مدمّر، ولكن فقدان أمل العودة هو محقِّق للوجود. لهذا همس الناس في ضمائرهم عن هذه المقترحات بأصوات مرتعشة. لأننا نعلم، بعمق: حين تُقودنا هناك، قد لا نرى بيتنا بعد ذلك أبدًا.

على العالم أن يرصد اللغة المستخدمة. لفظ «إنساني» كثيرًا ما يكون قناعًا. ما يُعرض ليس إنقاذًا بل سجنًا، وما يُحضّر ليس مأوى بل منظومة تحكم تهدف إلى تحويل النزوح إلى حالة دائمة.

إن قرأت تلك العناوين، فلا تتخيل أطفالًا يلعبون بسلام في بلدات جديدة مرتبة؛ تخيّلهم يحدّقون من خلف أسلاك شائكة، يسألون لماذا لا يمكنهم العودة. تخيّل أمهات يصطفن لأجل حصّة دقيق تحت أنظار جنود. تخيّل آباء يتوهّجون ليلًا غير قادرين على حماية عائلاتهم من إذلال المعاملة كأسْرى.

قد تكون الأسوأ لا تزال قادمة بالنسبة لنا في غزة. عدنا إلى ديارنا معتقدين أن الكابوس يكاد ينتهي؛ بدل ذلك نعيش في ظل ترحيل جديد، قد يمحو حتى الأطلال التي ندّعيها. هذا هو الرعب الذي يحدد حاضرنا: ليس فقط النجاة من القصف، بل العيش يوميًا مع الرهبة أن الفصل القادم قد كُتب سلفًا وأن أصعب الفصول لم يأتِ بعد.

وجهات النظر المعبر عنها هنا آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة. اننا نحتفظ بحق التعديل.

أضف تعليق