قلب سوريا النفطي مسموم: عقود من الحرب والإهمال والتقاعس البيئي

دير الزور، سوريا — أول ما يلفت الانتباه في صحراء شرق سوريا هو الامتداد الساكن الواسع: الصمت القاتل، الحرارة اللاهبة، وهباتُ رياحٍ جافةٍ حارّة. الرحلة إلى دير الزور تبدو وكأنها سفرٌ عبر الزمن، أقلُّ علامات الحداثة تلوح بينما تنظر من على الطريق.

ثم يظهر أمامك امتدادٌ لزجٌ لامعٌ، ندبة سوداء تخترق الصحراء البيج. رائحةٌ نفاذة كيميائية بترولية تلتصق بمؤخرة الحلق؛ يبدو المشهد جميلًا لصِغَر لحظاته، حتى تتذكّر أنه نهرٌ من الموت.

وصلنا إلى حقل التيم النفطي في محافظة دير الزور لنرى واحدًا من قليل المنشآت النفطية التي تسيطر عليها حكومة دمشق. بعد سنوات الحرب، كان يُتوقع أن يُصاب الحقل ببعض الأضرار، لكن هذا — امتدادٌ سامٌّ يختزل أحد أخطر الإرثات البيئية للصراع السوري.

الانسكاب النفطي ليس نتيجة معركةٍ واحدة، بل ثمرة عقودٍ من الإهمال والحرب. ما يتسرّب هنا مزيجٌ مسرطن من مياه الإنتاج — ناتج ثانوي لاستخراج النفط والغاز — ومزيجٍ من النفط الخام كان يُعاد حقنه بسلام إلى الطبقات الأرضية. البُنى التي كانت تقوم بذلك دُمرت خلال سنوات القتال ولم تُرمّم قط. لذلك يتدفّق الخليط دون رادع على مدار الساعة، يتغلغل في رمال الصحراء، يقترب من المكمن المائي تحت الأرض ويتلوّى صوب نهر الفرات، شريان حياة دير الزور.

نقص الدعم الحكومي

غياب الدولة الفاعلة الذي أدى إلى هذه الكارثة البيئية يمتد في أرجاء دير الزور. المحافظة — الواقعة في أقصى شرق سوريا والمفصولة عن الغرب الخصيب بالمئات من الكيلومترات الصحراوية — كانت هامشية لدى الدولة السورية منذ عقود قبل اندلاع الحرب. اليوم يتجلّى ذلك في جسورٍ مكسورة وقرىٍ مهجورة وحقول نفطٍ تُركت لتتعفن. قلةٌ من الصحفيين يجرؤون على الرحلة الطويلة من دمشق؛ المسافة تستغرق نصفَ يومٍ أحيانًا عبر نقاط تفتيش وطرقاتٍ خالية حيث لا ضمان للأمن، ويُستحسن إنهاء الرحلات قبل غروب الشمس.

يقرأ  إسرائيل تعترض مجدداً صاروخاً أُطلق من اليمن

عند المضخات القديمة التي تُستخرج منها النفط، وجدنا بعض الحراس يلتمسون الظلّ في مرابٍ مُكسوّ بالقماش. اقتربوا إلينا وهم يحملون البنادق على أكتافهم، وأحدهم يقود دراجة نارية صينية البناء، شعارُ التنظيم الأسود مطبوعٌ على المصباح الأمامي. ضحك الرجل عندما أشرتُ إلى ذلك: «اشتريناها وهي كذا»، قال مُكتفًا بكتفٍ هادئ. تذكيرٌ مروّع بأن أشباح الماضي ما زالت منقوشة ليس في الذاكرة فحسب، بل في أدوات الحياة اليومية.

محمد الطعمة، أحد مهندسي السلامة في المضخات، وجه الكلام سريعًا إلى الأزمة الحقيقية: «تقتل الطيور فورًا»، قال وهو يقترب ليشرح لنا عن الطين الأسود الخطر الذي رأيناه. «لا أحد يهتم، قلوا للعالم عن هذه النفايات السامة والإشعاعية.»

انسحبو العمال من الحقل بين 2012 و2013 عندما بدأ تنظيم الدولة بالتغلغل، ثم سيطر بشكل كامل على المحافظة في 2014. عاد بعض العمال بعد هزيمة التنظيم في المنطقة عام 2017، فإذا بهم يجدون هذا النهر المتسع من مخلفات النفط غير المعادة إلى الطبقات التحتية. لم يتغير شيء منذ ذلك الحين، حتى بعد سقوط الرئيس بشار الأسد في ديسمبر ونهاية الحرب السورية. الحكومة الجديدة تواجه تحديات أمنية وحكومية في كل أنحاء البلاد أثناء محاولتها فتح صفحةٍ جديدة بعد ثلاثة عشر عامًا من الصراع: اشتباكاتٌ متقطعة بين القوات الحكومية وميليشيات محلية أودت بمئات القتلى، وإسرائيل مستمرة في قصف البلاد وضم أراضٍ جديدة. ومع حاجة البلاد لإعادة إعمار واسعة، لا يحتل هذا الحقل موقعًا متقدمًا في قائمة الأولويات.

رمز الحرب

حيثما تمشى في الحقل تبدو الخسائر كنسيجٍ نسجه كل طرفٍ خاض القتال هنا: ثقوبُ رصاص في الأنابيب، تجاويفٌ هائلة في خزانات الوقود، وهياكلُ فولاذية ومعداتٌ مشوّهة. استُنزف الحقل زمن تنظيم الدولة لتمويل الدولة المزعومة، وقد قصفته طائرات التحالف الدولي وروسيا لقطع منابع التمويل. قوات النظام، وميليشياتٌ إيرانية الدعم، وكتائب محلية خاضت معارك دامية للسيطرة عليه؛ النتيجة ميراثٌ مسموم لجميع سكان دير الزور.

يقرأ  إضراب مضيفي «إير كندا» المستمريترك المسافرين عالقين

لفهم масштаб الكارثة أطلقنا طائرةً من دون طيّار؛ ومع ارتفاعها اتضح أن الانسكاب ليس بركة صغيرة، بل نهرٌ داكنٌ ممتد بلا رحمة — ندبة طولها نحو عشرة كيلومترات وما زالت تتسع. من الفضاء تبدو القصة أشد فداحة؛ ما بدأ كمستنقعٍ بعد الضربات الأولى تحوّل إلى laguna تُرى من المدار.

«عليكم أن تفهموا، قبل كل هذا لم يكن هنا شيء»، قال لنا فراس الحمد، مدير العمليات في حقل التيم. «هذه المياه الممزوجة بالنفط كنا نعيد حقنها عميقًا في الأرض. إجراء بروتوكولي. لكن منذ سنوات تصبّ طوال اليوم والليل.» تفسيره بسيط والعلم واضح: هذه مياه إنتاج سامة ناتجة عن الاستخراج، والحل أيضًا واضح من الناحية التقنية — حفر آبار تصريف جديدة. لكننا في سوريا، وفي دير الزور المهملة حيث تعمل المستشفيات بلا نقالات والكهرباء ساعات معدودة يوميًا؛ إصلاح بيئي من هذا النوع لا يدخل حتى في سلم الأولويات.

«طلبنا»، اعترف أحد المسؤولين المحليين بالإشارة إلى الحكومتين السابقة والحالية، «وُوعدنا.» «لا يحدث شيء.»

وعند الاتصال بالحكومة المركزية في دمشق، لم يأتِ أي رد.

أكبر مخاوفهم على بُعد خمسة عشر كيلومتراً فقط: نهر الفرات، شريان حياة لملايين السوريين والعراقيين.

حتى الآن، لم يصل السيل السام إلى النهر. لكن الصحراء لا ترحم؛ عاصفة شديدة واحدة أو فيضان مفاجئ، وقد تتدفق السموم إلى الفرات ملوِّثةً المحاصيل والآبار ومياه الشرب في مناطق المصبّ أسفل النهر.

في العراء لكنه مخفي؛ إنها تكلفه مستمرة للحرب.

هنا، في صمت قلب سورية النفطي، ينتشر نهر من السموم بلا رادع.

النفط، المورد الذي كان يومًا ما يعيل هذه المنطقة ويوفر وظائف وازدهاراً، بات الآن يهدد بتدميرها. وسكان دير الزور يقفون في حالة انتظار، محاصرون بين أنقاض الامس وكارثة تتصاعد أمام أعينهم.

يقرأ  مقطع قديم لحريق في كازينو يُعاد تداوله زوراً باعتباره «حرقاً متعمداً يستهدف العمال التايلانديين في مركز احتيال بكمبوديا»

كارثة لا يلتفت إليها العالم إلا قليلاً، وشهادة متدفقة تشكّل إرثًا صامتًا للحرب السورية.

أضف تعليق