أحيانًا تبرز أعمق الحكايات من أبسط المواجهات. في عام 2019، شرع سانتياغو كاراسكيّا ودانايه غوسيه — اللذان تدرّبا مع أساطين التصميم ستيفان ساجمايستر وباولا شير — في مشروع وثائقي بدا بسيطًا على الورق. مزوَّدان بكاميرا مستعارة وفضول لا يخبو، سافرا إلى الأرجنتين لتصوير لويس بنز، رسّام لافتات عاشق للخطّ تعلم حرفه بنفسه على مدى خمسة عقود كاملة.
ما سجّلته عدساتهما خلال خمسة أيام بقي راقدًا على الأقراص الصلبة لحوالي ثماني سنوات قبل أن ينبثق لاحقًا كعنوان نحمله بقلوبنا: لويس بنز: السعادة تتحقق بأبسط الأشياء. إنه بورتريه مؤثر يتخطى حدود الحرفة إلى عمق إنساني شامل. إن استطعت، خصّص خمس دقائق الآن لمشاهدته؛ لن تندم.
نشأة الصِلة
جمع الشراكة بين سانتياغو ودانايه تمازجًا مهنيًا وشخصيًا: كانا حينها على علاقة عاطفية، وقد أنجزا للتوّ فيديو موسيقي للمغنية ميتسكي. بدل أن يستريحا بعد نجاحهما، دفعهما نفس الإيقاع الإبداعي إلى الانطلاق من جديد. تقول دانايه: “كنا في مرحلة نعمل فيها بلا توقف، فلا أردنا التوقف بل أردنا صنع أشياء أخرى.” الفكرة عن لويس كانت تراود سانتياغو منذ سنوات: قابلَه قبل ذلك وضمن مخططاته طويلة الأمد منذ تخرجه من مدرسة الفنون البصرية في نيويورك من صف ديبي ميلمان. كان قد اقتنى عدة لافتات لبيته وحدث دانايه عن الفكرة، فدفعتهما لتنفيذها. حتى أنّ القرار اتُّخذ حرفيًا في تاكسي متجه إلى المطار: طلبا من لويس أن يرسم خمسين لافتة لنفسه.
شِعر الكلمات الشخصيّة
التحوّل الإبداعي الذي ميّز المشروع كان في اختيار المحتوى. بدلاً من توثيق لافتاته التجارية التقليدية، دعا الثنائي لويس لأن يلتفت إلى داخله ويختار كلمات ذات دلالة شخصية. يقول سانتياغو: “فكّرنا أن يكون من المثير أن يكتب كلمات لا يُطلب منه عادة كتابتها — ليس ‘آيس كريم’ ولا ‘مشروب غازي’، بل أشياء أخرى.” تفاجأوا بخياراته؛ استلّ قاموسًا قديمًا وانتقى كلمات مفضّلة لديه، بعضها من الإسبانية القديمة التي نادرًا ما تُستخدم اليوم، وعلى ظهر كل لافتة كتب التعريف الخاص بها.
هذا الإطار المبدع حوّل عملًا وثائقيًا عن حرفة إلى تجربة حميمة وجاذبة. كما تشرح دانايه: “رغبنا أن نتيح له فرصة أن يصنع شيئًا من أجله هو فقط. غالبًا ما كان عمله لخانات الفاكهة أو على القوارب؛ تغيير هذا السياق كان له وقع قوي، ودفعه إلى الانكشاف واختيار الكلمات التي تهمه.”
الطريق الطويل إلى الإنجاز
رغم المواد القوية التي صوّروها، لم تكن رحلة إكمال العمل ممهّدة. المشاريع الشخصية، كما يعرف أي مبدع، قد تكون الأصعب على الإطلاق، وهذا المشروع حمل ثقلًا عاطفيًا إضافيًا. يعترف سانتياغو: “إكمال المشروعات الشخصية من أصعب الأمور. كان هذا العمل ضخمًا: خمسة أيام تصوير وكثير من اللقطات لفرزها. التحرير كان مُرهقًا. استغرقنا وقتًا قبل أن نفتح الأرشيف، ثم حدثت احوال الحياة…” انفصلت دانايه وأنا في منتصف الطريق، الأمر الذي خفّض من دافعيتنا للعمل عليه لفترة. تحرير الفيلم وحده استغرق قرابة عام ونصف، واضطرّا خلاله إلى استخراج الحكاية من ساعات طويلة من اللقطات. دانايه تعزو إنجاز المشروع إلى إصرار سانتياغ؛ “صدقًا لا أظنّ أنني كنت لأنجزه لو كنت وحدي”، تقول. “سانتياغ أخذ المشروع على عاتقه، عمل مع فابيان لاكتشاف القصة الكامنة وراء اللقطات. صاغه ليصبح شيئًا إنسانيًا بالدرجة الأولى، بحيث تبرز الحياة الشخصية للويس أكثر من الصنعة. وهذا ما يمنحه قوته.”
الأصالة في البساطة
النهج البصري للفيلم يتماشى مع فلسفة لويس حول السعادة والبساطة. تم التصوير بكاميرا كانون C300 وعدسات عالية الجودة، ما مكّن من التقاط لحظات حميمة وغير مصطنعة تبدو في آن واحد خالدة وفورية.
“دانايه وأنا تناوبنا على التصوير وكنّا نبحث عن اللقطات سويًا”، يتذكر سانتياغو. “بقينا هناك طوال اليوم فالتقطنا ضوءًا رائعًا وتتابعات طبيعية من حياته. فيما يخص الألوان، تعاونّا مع مصحّح ألوان متميّز في باريس يدعى هادريان. أمضينا وقتًا في تشكيل المادّة حتى تمنح إحساس الذاكرة؛ مستوحى من التصوير التناظري.”
السحر الحقيقي ظهر أثناء بناء العلاقة مع لويس. “خمسة أيام متتالية ذهبنا إلى منزله وجلَسنا معه”، يقول سانتياغو. “صورناه وهو يرسم ويدخن ويعزف ويعمل. كان دائمًا يسرد قصصًا ويطلق النكات. رغم حاجز اللغة بالنسبة لدانايه، بدا الجو طبيعيًا ودافئًا.”
عامل الثقة
أعجب المخرجون بصراحة لويس واستقباله الفوري لهذين الشابين من نيويورك؛ لم يكن مجرد مجاملة مهنية، بل تواصل إنساني حقيقي. “كنت قد التقيت لويس منذ سنوات وطلبت منه لوحات من قبل”، يضرب سانتياغو مثلاً. “لكن الأهم أننا جميعًا شخصيات منفتحة ومرحبة وطيبة. لويس شعر بصدق اهتمامنا بصناعته. وأظنّه اندهش من أن شابين من نيويورك يأتون إلى الأرجنتين فقط لصنع فيلم عنه.”
عمق تلك الثقة يظهر منذ اللحظات الافتتاحية للفيلم، التي لا تبدأ بصنعته بل بقصة ضعفه الأكبر — مغادرة البيت عن تسع سنوات وعدم العودة. قرار تحريري جريء كان لكنه نجح في أسر انتباه المشاهد. “هذا الاختيار جاء أثناء التحرير الطويل”، يتذكر سانتياغو. “من المؤكد أن هناك نسخة تبدأ بتعريفه كفنان للخط؛ لكن قررنا أن نبدأ بالجزء المؤلم: ‘غادرت البيت عندما كنت في التاسعة.’ بدا قويًا وبدا أن البداية من هناك تمنح الفيلم قلبًا أكبر.”
ما وراء الحرفة: القصة الإنسانية
مع أن لويس بارع في حرفته، قوة الفيلم تكمن في تركيزه على الإنسان خلف الفرشاة. “الفيلم عن الشخص أولًا،” تلاحظ دانايه. “صعوبات الوجود، العيش خلال تجارب كثيرة. الحرفة موجودة لكنها في المرتبة الثانية. ما تراه هو لمحة عن حياة إنسان بكل شقوقها وتعقيداتها.”
هذا التوجه الإنساني يرنّ بقوة في زمن تبدو فيه الأصالة نادرة. “بالنسبة لي، ما يبرز هو الخامّة التي استطعنا التقاطها” تضيف دانايه، بصوتٍ يعبّر عن ارتياح لكون اللقطات حقيقيه وغير متصنّعة.