منحوتات ريتشارد هانت تتصدر المشهد في المعرض الاستقصائي لمعهد الفن المعاصر في ميامي

«الأساس المادي لتمثالي هو الفرص المعدنية. عبر الضغط في نقاط محددة، أستخرج الجمال من العملية الصناعية»، هكذا كتب ريتشارد هنت، أحد أكثر النحاتين العموميين إنتاجاً في الولايات المتحدة، في دفتر ملاحظاته قبل عقود.

كانت فكرة الضغط مركزية في نظرية هنت عن النحت، وستكون محور العرض في أول استعراض مؤسسي لأعماله منذ وفاته عن 88 عاماً في 2023، بعنوان «ريتشارد هنت: الضغط» في معهد الفن المعاصر في مايامي. على امتداد مسيرة امتدت سبعة عقود، نفّذ هنت أكثر من 160 عملاً نحتياً عمومياً بأربع وعشرين ولاية إضافة إلى واشنطن العاصمة، ونظّم أكثر من 170 معرضاً منفرداً؛ وتوجد أعماله اليوم في أكثر من 125 متحفاً حول العالم.

المعرض في معهد الفن المعاصر بميامي، الذي يفتتح يوم الثلاثاء ويستمر حتى مارس، يعرض 28 عملاً نحاتياً صنعها بين 1955 و2010، ما يجعله من أكبر التجمعات لأعماله على الإطلاق. عرض الأعمال خلال أسبوع ميامي للفن «يمنح فرصة لهنت ليكون في مركز المشهد الفني بطريقة لم يحدث لها مثيل من قبل»، قال جون أوت، المدير التنفيذي لمؤسسة إرث ريتشارد هنت، لصحيفة ARTnews، معبّراً عن أمله ان يمنح المعرض هنت وأعماله «مدخلاً مهماً ومُستحقّاً للناس من جميع أنحاء العالم».

كلمة «الضغط» في عنوان المعرض تحمل بعدين، بحسب القيم المشرفة جيان مورينو. فمن جهة يرى مورينو الضغط بصيغته الحرفية في أعمال ستينيات القرن الماضي، حيث يشعر المشاهد فعلاً بالضغط المطبق لصنع القطع. ومن جهة أخرى هناك الضغوط الاجتماعية التي أحاطت بهنت، والتي دفعته إلى استجابة فنية لمخاوف زمانه مع الحفاظ على صرامة شكلية ودقة بحثية أدت إلى لغة نحتية مبتكرة.

نشأ هنت في الجانب الجنوبي من شيكاغو، على بُعد بضعة مبانٍ من مكان مقتل إيميت تِل، الفتى البالغ 14 عاماً الذي تعرّض للضرب الوحشي وقتل على يد رجال بيض في ميسيسيبي عام 1955. قامت أمه مامي تِل بفتح نعش ابنها في جنازة عامة حتى يرى الناس بوضوح الفظائع التي لِحِقَت به؛ وانتشرت صور جثته المشوّهة على نطاق واسع، وكانت تلك الجريمة من شرارات كثيرة للحركة الحقوقية المدنية.

يقرأ  ١٠ معارض فنية لا تفوت في منطقة خليج سان فرانسيسكو — خريف ٢٠٢٥

حضور هنت، الذي كان في التاسعة عشرة تقريباً، لتلك الجنازة ترك أثره العميق على مساره الفني، فحوّل تركيزه إلى أسلوب أكثر تجريداً ومشحوناً بلمسات سريالية كوسيلة للتعامل مع الصدمة. في عام 1956 صنع تمثال «رأس البطل»، عمل لِرأس ملحوم عليه ندوب مكرّس لإيميت تِل.

مع تطور مساره الفني نما أيضاً وعيه ونشاطه المدني. شارك في مقاطعة كونتر طعام في ولورث عام 1960 في سان أنطونيو بولاية تكساس. وظل حدث مقتل تِل يلازمه مدى الحياة؛ وفي زمنٍ قريبٍ قبل وفاته أنهى نموذج نصب تذكاري لتخليد ذكرى إيميت الشاب، سيتم تركيبه قريباً عند منزل طفولته في شيكاغو.

التزامه بتشكيل الذكرى والتخليد عبر المشهد الأمريكي يعد جانباً مهماً من إرثه، تقول ميلاني هارفي، مؤرخة فنون بجامعة هاورد التي كثيراً ما تستعين بأعمال هنت الثلاثة المثبتة في الحرم الجامعي كنقطة انطلاق لدوراتها التمهيدية في تقدير الفن والفن الأميركي الأفريقي.

غير أن مقاربة هنت للقضايا الاجتماعية لم تكن تفسيرية حرفياً؛ إذ تجنّب التصويرية الأكيدة في وقت لم تكن تُعتبر دائماً مفيدة لدفع الحركة الحقوقية قُدُماً. «نما في زمن كانت فيه النحت الحديث في أميركا في أوج قوته، وعمل في ذلك الاتجاه. لكنه كان مشغولاً أيضاً بمسائل اجتماعية لا يستطيع تجاهلها»، قالت مورينو. «لذا اضطر إلى ابتكار استراتيجيات نحتية مثيرة لتمكينه من إنتاج أعمال تبدو رسمياً في الطليعة، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تنقل الضغوط الاجتماعية التي كانت تهمه».

كان هنت واعياً لهذا المسار، إذ قال لصحيفة واشنطن بوست في 1972: «اهتممت بأن أكون فناناً في 1955 عندما شعر السود أنهم يجب أن يصبحوا بيضاً كي ينجحوا، والحركة التي أثّرت في وعي الناس بكونهم سود لم تكن واضحة بعد. لكن، في نشأتي داخل مجتمع أسود في شيكاغو، كانت هناك نوع من الفخر الأسود». عنونت البوست مقالها حينها «ريتشارد هنت: فنان أسود لا يصنع فناً أسوداً».

وُلد هنت عام 1935 وبقي طوال حياته في شيكاغو؛ زيارة له إلى معرض «نحت القرن العشرين» في معهد الفن في شيكاغو عام 1953، الذي ضم أعمالاً لبيكاسو وجياكوميتي، ألهمته لمتابعة مهنة في النحت. درس في مدرسة معهد الفن في شيكاغو (SAIC) وحصل على شهادة البكالوريوس في تعليم الفنون عام 1957. في ذلك العام اقتنى متحف الفن الحديث في نيويورك تمثاله بارتفاع 30 بوصة «أرخنِ» (1956).

يقرأ  آن إيمهو تعيد تخيّل أطقم كرة القدم بالتعاون مع نايك

ومع ذلك، لم يتعلم هنت لحام المعادن في SAIC. «يمثل تقاطعاً فريداً للغاية بين تقنية تعليم ذاتي ومعرفة موسوعية بأساليب الفنون الجميلة»، هكذا وصفه زملاؤه ومعرفوه. «لقد حمل بالفعل شعلة فن المعادن»، قال أوت، الذي يتولى أيضاً كتابة السيرة الرسمية لهنت.

بدأ هنت خوض تجربة النحت العام في عام 1969، حين كلَّفه والتر نيتش بإنجاز عمل لِمستشفى كان يصممه قرب مدينة شيكاغو. النحت المصنوع من فولاذ كور‑تين الذي حمل عنوان «اللعب» يصور شكلين كرويين، أحدهما يعلو الآخر، وقد استوحاه هنت من المشاهدين الذين تعرّضوا لهجوم كلاب الشرطة في برمنغهام بولاية ألاباما خلال حركة الحقوق المدنية. وضع هنت للعمل عنوانه الأول «المطاردة»، إذ رآه تصويراً لمشهد المطاردة، لكن نيتش طلب عنواناً آخر لأن العمل مخصص لمرفق للصحة النفسية.

كان فولاذ كور‑تين أحد المواد المفضلة لدى هنت في بداياته؛ فقد اتسم حينئذ بالمتانة وبالقدرة على تحمل عناصر الطقس، مما يجعله مثالياً للأعمال الخارجية الكبيرة. وإمكانية أن تكون للفن العام «أساس وشكل تجريدي»، كما بدا في عمله «اللعب»، مهدت الطريق أمام هنت ليعتقد أن الفن يمكن أن يكون محوِّلاً بطريقة تجريدية — فكرة كانت ثورية آنذاك، كما أشار أوت.

ريتشارد هنت، من الأرض صعودًا، 1989.
تصوير: ناثان كي/©2025 أرشيف ريتشارد هنت، حقوق الفنانين (ARS)، نيويورك

أعمق أثر فني على هنت، أكثر من أي فنان آخر، جاء من كونستانتين برانكوشي، المعروف بمنحته في النحت الحداثي التجريدي. في عام 1957 سافر هنت إلى باريس، بعد فترة وجيزة من وفاة برانكوشي، وتمكّن هناك من زيارة ستديو النحات الراحل — المحفوظ كما كان يوم رحيله. (أهدا برانكوشي مرسمه للدولة الفرنسية عند موته؛ وأُعيد تركيبه بشكل مطابق مقابل مركز بومبيدو عام 1977، لكنه مغلق الآن ضمن أعمال ترميم المستمرة بالمتحف.)

يقرأ  الناخبون في جمهورية صربسكا ينتخبون زعيمًا جديدًا بعد إزاحة الانفصالي ميلوراد دوديك — أخبار الانتخابات

طريقة عيش برانكوشي مع العمل الفني شكّلت نموذجاً لهنت، الذي اقتنى لاحقاً محطة كهرباء متوقفة ليجعلها مرسمه. وعلى غرار برانكوشي، عاش داخل مرسمه، نائماً في علّية مبنية خصيصاً له. «كان كأنه لم يخرج أبداً من ذلك المكان، وكان يعيش مع المواد والأفكار المتعلقة بالنحت»، كما فسّرت مورينو.

تصاعدت مكانة هنت في المشهد الفني، وفي عام 1971 حقق نقلة نوعية بعرض استعادي نصف‑مهني في متحف الفن الحديث (MoMA) — كان الأول لنحات أميركي من أصل أفريقي، وفي تلك الفترة كان عرضاً نادراً أيضاً لفنان مقيم في شيكاغو. وخلال العقود التالية، كثُر إنتاجه من الأعمال العامة بعمولات بارزة، منها «لقد ذهبت إلى الجبل» في منتزه التأمل الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن في ممفيس، و«تأرجح منخفض» في المتحف الوطني لتاريخ وثقافة الأميركيين من أصل أفريقي في واشنطن، و«طائر الكتاب» في مركز الرئيس أوباما الرئاسي المرتقب في شيكاغو.

ريتشارد هنت، رحلة منخفضة، 1998.
تصوير: On White Wall/©2025 أرشيف ريتشارد هنت، ARS، نيويورك وDACS، لندن

رغم أن منحوتاته تجريدية الشكل وقد تبدو عسيرة الاختزال للوهلة الأولى، فإن هنت كان يَعُدّ تجربة المتلقي جزءاً محورياً من عمله، حسبما قال أوت، الذي أضاف: «كان يتلذذ بطبقات التفسير المتعددة ويُدخِل الجميع في حوار حول أعماله.»

ابتكر هنت لغة بصرية خاصة به، مزجت الحداثة الأوروبية بتاريخ الأميركيين من أصل أفريقي والتجريد الامريكية، ولمنحوتاته طابع روحي أحياناً، رغم أنها غالباً ما تتناول مواضيع دنيوية. وبالتحوير التجريدي لأشكاله استطاع أن يحقق تماسُكاً بين العامة والخاصة في آنٍ واحد، حتى أن تصورات المجتمع عن حدود العِرق لا تُقاوم فقط بل تُجاوز.

«أحياناً لا يكون الأمر متعلقاً بصنع الفن»، قال هنت ذات مرة. «أحياناً يتعلق الأمر بإصدار بيانات حول الثقافة والتاريخ، أو التاريخ والثقافة، من خلال الفن ومعه.»

أضف تعليق