ستبقى غزة في ظلّ المجاعة ما لم نتمكن من زراعة أراضينا — الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني

أُعلن وقف لإطلاق النار الأسبوع الماضي بعد عامين من الإبادة الجماعية في غزة. توقفت القنابل عن السقوط، لكن الدمار باقٍ على حاله. تحولت غالبية المنازل والمدارس والمستشفيات والجامعات والمصانع والمباني التجارية إلى ركام. من الأعلى تبدو غزة صحراء رمادية من أنقاض، مساحاتها الحضرية النابضة تحولت إلى مدن أشباح، وأراضيها الزراعية والـمساحات الخضرة قد مُحيت.

لم يكن هدف المحتل مجرد تشريد الفلسطينيين في غزة، بل حرمانهم أيضاً من سبل العيش. اقتلاع المشردين والمُفقَرين—أولئك الذين فقدوا صلتهم بالأرض—أسهل بكثير من مواجهة حقيقة وجودهم.

هذه كانت النية حين دخلت دبابات وجرافات إسرائيلية قطعة أرض عائلتنا في الجهة الشرقية من مخيم المغازي و اقتلعت 55 شجرة زيتون و10 نخيل وخمس أشجار تين.

عرض صاحب الأرض الأصلي هذه القطعة على جدي اللاجئ علي السلول كمأوى خلال نكبة 1948. كان علي وزوجته غالية وأبناؤهم قد فرّوا لتوهم من قريتهم المَغار أمام زحف الميليشيات الصهيونية. كما حدث لغزة اليوم، تحولت المَغار إلى أنقاض؛ وأتمّ من قاموا بتلك الجريمة طمس الذاكرة بإقامة حديقة وطنية على خرابها — “حدائق مرار هيلز الوطنية”.

كان جدي فلاحاً كما كان آباؤه من قبل؛ رزقه كان يأتي من الأرض. لذا لمّا استقر في المكان الجديد بادر إلى غرس الزيتون والنخيل والتين والصبار. بنى منزله هناك وربّى والدي وعمّاتي وعمومي. وفيما بعد اشترى الأرض من صاحبها الكريم بدفعات على مدى سنوات طويلة. وهكذا باتت عائلتنا تملك أرضاً مساحتها ألفي متر مربع (نصف فدان).

رغم زواج والدي وإخوته وانتقالهم من منزل العائلة، بقيت تلك القطعة وجهتنا المفضلة، وخصوصاً بالنسبة لي. لم تكن تبعد سوى كيلومترين عن منزلنا في مخيم المغازي. كنت أستمتع بالمشي الذي يستغرق ثلاثين دقيقة، جزء منه عبر ما يشبه “غابة”: امتداد أخضر من البرسيم والصفصاف والنبق وأشجار الزيتون، طيور ملونة، ثعالب، كلاب مقيّدة وطليقة، والعديد من خلايا النحل.

يقرأ  طواقم الضيافة في إير كندا تواصل إضرابها رغم أمر حكوميأخبار الطيران

كل خريف، في أكتوبر، ومع بداية موسم قطاف الزيتون كنا أنا وأبناء عمومتي وأصدقائي نجتمع للجني؛ مناسبة تجمعنا. كنا نعصر المحصول لنحصل على 500 لتر تقريباً من زيت الزيتون. وكان التين والبلح يتحولان إلى مربيّات نفطر عليها أو نأكلها في السحور خلال رمضان.

خلال العام كنت ألتقي غالباً بصديقي إبراهيم ومحمد بين الزيتون. نشعل ناراً صغيرة ونطبخ إبريق شاي تحت ضوء القمر ونجالس الحديث.

عندما اندلعت الحرب في 2023، أصبحت الأرض مكاناً خطيراً. كانت المزارع وبساتين الزيتون المحيطة تتعرض لقصف متكرر. أصيبت قطعنا مرتين في بداية الحرب، فتعذر علينا جني الزيتون في 2023 ثم مرة أخرى في 2024.

حين اجتاحت المجاعة غزة في الصيف، بدأنا نتسلل إلى القطعة لجمع بعض الثمار وبعض الحطب للطبخ، لأن كيلو الحطب كان يباع بسعر دولارين. كنا ندرك أن الدبابات قد تقتحم في أي لحظة، مع ذلك خاطرنا.

سبع عائلات—نحن وأصدقاء وجيران—استفدنا من ثمرات وأخشاب تلك الأرض.

في أواخر أغسطس جاءني اتصال من صديق يحمل شائعة مروعة: دبابات وجرافات إسرائيلية تقدمت إلى شرق المغازي ومهّدت المكان وأقتلعت الأشجار ودفنتها. انحبست أنفاسي؛ ذهب شريان حياتنا.

بعد أيام تأكد الخبر. الجيش الإسرائيلي اقتلع أكثر من 600 شجرة في المنطقة، غالبيتها زيتون. الذين فرّوا من المكان نقلوا ما رأوه: ما كان امتداداً أخضر غنياً صار صحراء صفراء بلا حياة.

في وقت سابق من أغسطس، أفادت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة أن 98.5% من الأراضي الزراعية في غزة تضررت أو أصبحت غير متاحة للزراعة. لا أعتقد أن اقتلاع أرضنا سوى صغر من الـ1.5% المتبقّي.

بينما كانت إسرائيل تكمل محو الأراضي الزراعية الفلسطينية، بدأت تسمح بمرور شاحنات تجارية لا شاحنات إغاثة. غمرت الأسواق منتجات مغلفة باللغة العبرية.

يقرأ  مارك ماركيزيتوّج في جائزة المجر الكبرى للدراجات النارية بفوزه السابع على التوالي

كانت إسرائيل تجوعنا، تدمر قدرتنا على إنتاج غذائنا، ثم تُجبرنا على شراء منتجاتها بأسعار باهظة.

تسعون في المئة من الناس في غزة عاطلون عن العمل ولا يملكون قدرة شراء بيضة إسرائيلية بخمسة دولارات أو كيلو تمر بثلاثة عشر دولاراً. كانت استراتيجية إبادة بدلية تجبر مليوني فلسطيني جائع على الاختيار بين خيارين فظيعين: الموت جوعاً أو تمويل اقتصاد الجلاد.

الآن يفترض أن تبدأ المساعدات بالدخول إلى غزة ضمن اتفاقية وقف النار. قد يكون ذلك متنفساً للملايين الجياع، لكنه ليس حلاً. جعلتنا إسرائيل رهينة للمساعدات؛ هي وحدها تُقرّر متى وكم ومن يدخل. بحسب مؤشر مراحل الأمن الغذائي المتكامل، يعاني 100% من الفلسطينيين في غزة من درجات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي.

ما تبقى من الأراضي الزراعية في غزة لا يزال خارج متناولنا، فإسرائيل انسحبت من جزء يسير فقط من القطاع. ستنتظر عائلتي تنفيذ المرحلة الثالثة من اتفاق وقف النار — إذا وافقت إسرائيل على تنفيذها أصلاً — حتى تنسحب القوات إلى المنطقة العازلة ونستعيد الوصول إلى أرضنا.

لقد فقدنا أرضنا مرتين: مرة في 1948 والآن مرة أخرى في 2025. تريد إسرائيل تكرار التاريخ وتجريدنا من ملكيتنا من جديد. لا ينبغي السماح لها بتحويل مزيد من الأرض الفلسطينية إلى مناطق عازلة وحدائق وطنية.

استعادة أرضنا وإعادة تأهيلها وزراعتها أمر محوري ليس لبقائنا فقط بل للحفاظ على صلتنا بالأرض. علينا أن نقاوم الاقتلاع وألا نرضى به؛ فالأرض ليست سلعة يمكن التنازل عنها.

الآراء المعبر عنها هنا تخص الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للقناة.

أضف تعليق