في ظهيرة نوفمبر المشرقة في غوا شاهدت أمرًا مألوفًا على رقعة الشطرنج. اللاعب الهندي الكبير أرجون إيريغايزي، المصنف السادس عالميًا، وقع في فخ وانهار أمام نظيره الصيني ويي يي. كان إيريغايزي يلعب على أرضه، وتجمّع حول رقعته تلاميذ المدارس في صمت مطبق. دفع بيده الجندب إلى وسط اللوح، ضغط على زر ساعة الشطرنج ثنائية المؤقت، وبدأت المباراة.
في هذه الأرض التي وُلدت فيها لعبة الشطرنج، ينهض الأبطال بسهولة كما تنمو أشجار جوز الهند على الساحل. تلج اللعبة إلى حياة الطفل مبكرًا، تزحف عبر فواصل الفصول والمطابخ والمنازل المكتظة والمتعبة للطبقة العاملة، تعلمهما التخطيط أو — وأكثر احتمالًا — الصبر على الامتحان. هكذا دخلت الشطرنج حياتي على الأقل. عمّي البديع، بيريابّا، لم يمتلك مالاً لمتابعة تعليم أعلى، وكان مزاجه المتقلب يبعده عن الوظائف الطويلة، فكان في الغالب من ينوب عنهم في العناية بي. لا بد أني كنت في السادسة حين منحني يومًا ميراثي المحبوب: لعبة الشطرنج.
ما زلت أرى بوضوح ذلك الحصان البلاستيكي الصغير المشقوق وهو يهزّه بيريابّا أمام وجهي قائلاً: «هذه خيولي المفضلة. قاتلة إن أتقنتها». شعرت حينها أنني تذوقت شيئًا سأظل مشتاقًا إليه دائمًا. دخلت الشطرنج إلى كياني كإحساس، لا كهواية؛ كانت علاقتي بها علاقة كيميائية حسية، شبيهة بالفيرومونات.
كنت طفلة عصية ومنعزلة، أختبئ وراء العبوس عندما يدعوني عمّي للعبة. توقعت أن أفوز؛ فما الذي يمنح البالغ متعة في هزيمة طفل في السادسة؟ كل ما عرفته عن العالم أكد لي أن بيريابّا سيتغاضى عن بعض الحركات بدافع حبه. لكن حبه لم يكن من هذا النوع. والشطرنج ليست لعبة رحمة. لا مكان للشفقة فيها، بل للمنهج والاختيار.
علّمني أول درس شطرنجي: لا أحد يخسر هنا بالمعنى النهائي. إما أن تتعلم درسًا أو أن تدرّس واحدًا. بالطبع لم أكن مستعدة للدروس. رميت القطع، بكيت قليلاً، وابتعدت عن الشطرنج. إن كان لي مشوار في عالم اللعبة، فكان قصيرًا: فزت بدورة محلية في حينا ثم تشتت انتباهي بالدراسة والأولاد والحياة، وبعيدًا عن عمي واللوح.
عاد الشطرنج إلى حياتي بعد أن توفي. ربما كان موته هو السبب في رجوعي؛ أصبحت الرقعة المكان الوحيد الذي أشعر فيه بقربه. وهذه المرة بقيت. عندما ضربت الجائحة، تحولت الرقعة إلى ملاذي الوحيد بين ولادة الأخبار وتقلبات الحياة. كانت وسيلتي للمصارعة مع نفسي، ومع صدى صوته في رأسي.
حين تندفع في حب الشطرنج بحدة، تتكون لك في النهاية أسلوبٌ، كما يتكوّن للكاتب صوت مميز. كان بوبي فيشر مشهورًا بعشق الفيلة، أما غاري كاسباروف فكان نشاط الرخ في منتصف اللعبة سلاحه القاتل. ماغنوس كارلسن، من عمالقة الحاضر، اشتهر بملك نشط جدًا في النهايات. يُعرف إيريغايزي بـ«المجنون على اللوح» لأنه من النادر أن يلعب وهو مهتم بالحسابات النتيجة أكثر من جمال اللعبة؛ يجعله ذلك متهورًا وخطيرًا، دقيقًا كقناص ألماني. لكن ذلك سائر فقط حين تسير الأمور وفق المخطط.
لم تسر دوائر الحظ لصالحه هذه المرة. في مباراة إيريغايزي–يي، ومع دقيقة واحدة على الساعة، أخطأ إيريغايزي ففقد رخّه. منذ تلك اللحظة أجرى حركات بدت كأنها تضعفه تدريجيًا. جلست في قاعة اللعب بين صفين من المتفرجين، ودفتر الملاحظات على ركبتي، ورأيته يفقد قطعة تلو الأخرى، كما تُجرد حيوانات من لحمها، طبقةً بعد طبقة، بلا مهرب.
كانت مسرحية من نوع يثير ولع المتتبعين.
علمتني عقودي كمُدمن هاوٍ للشطرنج أن الإدمان نادرًا ما ينبع من اللعبة بأسرها، بل من شظية منها: عنفها المنضبط كما في مباراة إيريغايزي–يي أو هوس بقطعة واحدة. بالنسبة لبيريابّا كان الحصان. بالنسبة لي، الزوغزوانغ هو السحر الذي يقيدني. الزوغزوانغ حالة في النهاية يُجبر فيها اللاعب على الحَرَك، ولكن كل حركة تزيد من ضعف موقفه. لا يمكنه التمرير أو الامتناع؛ اللوح يقدم خيارات بلا مرفأ. أمضيت سنوات أحاول فهم الزوغزوانغ، آملاً أن يمنحني تفسيرًا لنهاية علاقتي بيريابّا.
كنا نتحدث بسهولة في طفولتي، كما يتحدث الناس قبل أن تعقّد الحياة اللوح. لكن النضج يغير هندسة القرب، وبدأت أرى شائبه. كان سريع الغضب، زوجًا وأبًا عصيًا، وآراؤه عن تعليمي وخاطبي وحتى الشطرنج صارت غير مرحب بها. لم تكن هناك هزة واحدة قطعت الوصل؛ كان تراكم مكالمات لم تُرد وزيارات مُؤجلة حتى تقلص ما يجمعنا. انتهت علاقتنا وأنا أشاهده يتألم في مستشفى بمومباي، عاجزة عن قول أو فعل شيء. حين توفى، انزلقنا إلى زوايا منفصلة، مثل قطع تسبح نحو نهاية لعبة، محاصَرين بزَوْغزْوانْغٍ عاطفي صنعتهما أيدينا.
بعد موته، غصت في دراسة الزوغزوانغ هوسًا، على أمل أن أغلف النهاية بقوس حكمة شطرنجية. قد أمضي ساعات في مشاهدة وقراءة عن مباراة 1923 بين آرون نيمزوفيتش وفريدريش زيميش، المعروفة بـ«زوغزوانغ الخالد». هي من أكثر المباريات احتفاءً في التاريخ، لأن الوضع النهائي يُظهر الأبيض مربوطًا تمامًا: كل حركة قانونية تنهار بها وضعه. شلل شامل عبر اللوح، كما لو أن نيمزوفيتش لف قطع زيميش بسلكٍ غير مرئي. لا كش ملك ولا هزيمة بذلّة، تنتهي اللعبة بلا بهجة، بل باليقين المحتوم.
لم يداهمني الحزن بعد موته كعاصفة؛ تسرب تدريجيًا. ندمت أنني لم أخبره يومًا أن إتقان الحصان صار جبل إفرستي الشخصي. ندمت أنه لم يدرك أنني أحب الحصان لمجرد أنه أحبه. لقد استقرت الخيول في دماغي، في جزءٍ زاحفي عميق حيث تعيش طفولتي. هذا التفضيل الصغير، الموروث بعفوية، جاوز بقاء أحاديثنا معًا. ليس له معنى سري — في الواقع، أظن أنه بلا معنى على الإطلاق. ربما هذا ما تبقى من العلاقات: تفاصيل عديمة الجدوى ترِس فيك، مثل شواحن لم تُستخدم أو حسابات بريد إلكترونيَ منتهية الصلاحية.
كلما عدت إلى الزوغزوانغ علّمني دروسًا جديدة. اليوم، الدرس الذي يلاحقني هو عن نهاياتٍ عميقة، حين تؤلمك كل الخيارات. يصبح الزوغزوانغ مرآة، وفيها أرى دائمًا ظل حصان بلاستيكي مشقوق، مرفوعًا إلى وجهي، يطلب مني أن أختار.
الآراء المعبر عنها في هذه المقالة تعبر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لِـ الجزيرة.