مقدمة
لطالما ظلّ سؤال “ماذا لو…” يتردّد عبر التاريخ. على مدار الأشهر المقبلة، ستتقصّى الجزيرة بعضاً من أكبر التحديات المعاصرة وتسأل خبراء بارزين: “ماذا لو…”. تأسست الأمم المحدة قبل ثمانين عاماً في أكتوبر، وتحولت منذ ذلك الحين إلى عنصر ثابت في حياة الناس عبر العالم.
دور المنظمة وإسهاماتها
خلال ثمانية عقود، لم تقتصر وظائف المنظمة على قيادة العالم خلال أزمات صحية عالمية فحسب، بل لعبت دوراً محورياً في صياغة القانون الدولي، ودبلوماسية الدول، والمساعدات الإنسانية، وحفظ السلام؛ وفي الكثير من الأحيان — سواء عن حق أو عن خطأ — ساهمت في صون ما يفهمه الكثيرون بـ”نظام العالم”.
نقاط النقد والجدل
رغم اعتبار كثيرين لدورها ضرورياً، فقد تعرّضت الأمم المتحدة لانتقادات متزايدة بتفضيلها أجندات العالم الغربي على حساب احتياجات الجنوب العالمي. كما وُجّهت إليها أسئلة حادة حول فشلها في منع فظائع جماعية، بما في ذلك مجزرة رواندا وبوسنة والهرسك في التسعينيات، والعنف الوحشي في إقليم دارفور بالسودان، رغم وجود قوات أممية هناك. كذلك تُطرح شرعية المنظمة اليوم في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، إذ تطعن إسرائيل في شرعيتها وتبوء دور الوسيط في وقف النار الذي ترتكز عليه قواعد القانون الدولي بصيغة ما إلى الولايات المتحدة.
هل يمكن الاستغناء عنها؟
تثار أسئلة جوهرية: لماذا نتمسك بالأمم المتحدة؟ أليس بوسع الدول معالجة مشكلاتها داخلياً؟ إذ لم تكن المنظمة الأولى من نوعها — فقد سبقها عصبة الأمم التي تأسست عام 1920 ولم تصمد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية — فهل نتوقع بقاء الأمم المتحدة إلى الأبد؟
تعليقات الخبراء
أجرت الجزيرة حوارات مع عدد من الخبراء وطلبت منهم تَخَيّل سيناريو تفكيك الأمم المتحدة نهاية الأسبوع المقبل، وتوضيح النتائج المحتملة.
ماذا سيحدث للهجرة واللاجئين؟
لو أُعلنت نهاية المنظمة يوم جمعة، فستجد دول العالم نفسها تبحث عن بدائل قبل حلول يوم الاثنين. كثير من التحديات الراهنة عابرة للحدود؛ فمثلاً قضية اللاجئين: ثمة أكثر من مائة مليون لاجئ ومشرد ومهاجر غير منتظم في العالم — ليست قضية يمكن لدولة واحدة حلّها وحدها، بل تحتاج إلى استجابة عابرة للحدود.
نلاحظ بالفعل خفضاً في المساعدات، لا سيما من الولايات المتحدة، ما يضعف الأمن الغذائي في المخيمات المدعومة أممياً ويؤدي إلى ارتفاع سوء التغذية وتفاقم التوترات الاجتماعية. ومع انكماش المساعدات، يتجه كثير من اللاجئين من المخيمات إلى المدن حيث يعيلون أنفسهم أحياناً من خلال الاقتصاد غير الرسمي، لكن توافدهم يثقل كاهل الموارد والخدمات المحلية.
لو اختفت الأمم المتحدة كليةً، فسيرتحل بعض اللاجئين إلى الشمال العالمي؛ وهو أمر قد يؤثر على أوروبا خلال عام تقريباً، بينما سيجد آخرون أنفسهم محاصرين في أوضاع أكثر هشاشة، إذ كلما ازداد فقر اللاجئ نقصت قدرته على التنقّل. من دون وجود آليات أممية للمساءلة، ستتراجع المعايير بسرعة، وقد ينتشر نموذج العمل الأحادي الأميركي — وستحاول جهات خاصة مثل Gaza Humanitarian Foundation ملء الفراغ، علماً بأن هذا النموذج اتُهم بتسببه بوقوع وفيات أثناء محاولة الناس الوصول إلى الغذاء (أكثر من 600 قتيل)، كما أن آلاف الوظائف داخل المنظمة وشركائها ومورديها قد تتلاشى بين ليلة وضحاها.
ماذا سيحلّ بالقانون الدولي؟
بالنسبة إلى القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، كانت السيادة غالباً ما تأتي قبل القانون الدولي. تأثير مؤسسات مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية يتراجع منذ فترة. لذلك، عندما نتدبّر تداعيات تفكيك الأمم المتحدة على الصعيد القانوني، نحن في الواقع نناقش عملية قد بدأت بالفعل. مؤسسات عظيمة ذوت من قبل — وعصبة الأمم مثال صارخ — والأمم المتحدة فقدت نفوذها السياسي على مدى السنوات، ولا يمكن استبعاد زوالها في حال تضاءل دعم دول مانحة رئيسية.
لكن القانون الدولي لن يختفي تماماً. المنظمات غير الحكومية والفاعلون غير الدوليون قادرون على استغلال المحاكم الوطنية لمساءلة المتورطين؛ فمثلاً تسعى منظمة الحق الفلسطينية ــ مستقلة عن الأمم المتحدة ــ لمقاضاة شركات بريطانية متعلقة بتزويد الجيش الإسرائيلي بقطع غيار. كما قاد محامون من خلال آليات دولية تحقيقات عابرة للحدود بشأن جرائم مفترضة ضد الروهينغا في بنغلاديش وميانمار، مُظهرين كيف يمكن للمدعين التعاون بين ولايات قضائية مختلفة. المحاكم الدولية نفسها قد تستمر، وستبقى قواعد التجريم مثل أحكام منع الإبادة قائمة، لكن مسؤولية التنفيذ ستلقى بثقل أكبر على الدول والشركات والمجتمع المدني — عبء غير متوقع، لكنه سيبقى ضرورياً.
هل تستطيع الدول منفردة تولي مهام حفظ السلام؟
الـ”حفظ السلام” الأحادي ليس حفظ سلام حقيقيّاً بقدر ما هو احتلال؛ ولهذا تتجنّب الدول عادة القيام به دون غطاء متعدد الأطراف، أو تسعى إلى تفويض من هيئات إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي، تعود بعد ذلك للتصديق أمام الأمم المتحدة. هذا هو دور الأخيرة في عمليات حفظ السلام: تُضفي الشرعية. وستظل هذه الصفة قائمة ما دامت الأمم المتحدة تحتفظ بشرعيتها، أما إذا فقدت الأخيرة كامل شرعيتها فستفقد دورها ذاك، ويصير المشهد أشبه بمنافسات نفوذ ودُولية أقل انتظاماً، شبيهة بما تفعله مجموعات مثل مجموعة العشرين ولكن بلا مؤسسية قانونية متعددة الأطراف. تملك القوى الكبرى ومن يدورون في فلكها القدره المالية والعسكرية على أداء الكثير من أعمال الأمم المتحدة، لكن ذلك سيُنظر إليه — وبحق — على أنه فرض لإرادة اقتصادات قوية على دول أضعف. الطريق الوحيد لتجاوز هذا الانطباع هو وجود هيئة دولية مثل الأمم المتحدة أو بديل شبيه يتمتع بمصداقية وشرعية حقيقية.
لكن هذه الشرعية مهددة. لا تستطيع، أو لا تريد، المنظمة فرض أي عقوبات على أعضائها الدائمين في مجلس الأمن (الصين، فرنسا، روسيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة). هذا يحول القانون الدولي إلى مهزلة: أي قانون لا يمكن إنفاذه يظل في حُكم الواقع مجرد وهم قانوني، وهذا يقوض كل شيء. انظروا إلى الحال التي وصلنا إليها: محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية — وُجد على الساحة زعماء مثل (فلاديمير) بوتين و(بنيامين) نتنياهو يتنقلون حول العالم بلا تهديد واضح للمساءلة.
رميش ثاكور، مساعد أمين عام سابق للأمم المتحدة
قوات اليونيفيل تسير دوريات في قرية الرميّاح جنوب لبنان قرب الحدود مع إسرائيل [أرشيف: محمود زيّات/أ ف ب]
ماذا سيحدث لمنظمة الصحة العالمية؟
لو أُلغيت منظمة الصحة العالمية يوم الجمعة، فسيهرع العالم لإعادة بنائها تقريباً على الفور. قوتها في بنيتها: لكل دولة عضو صوت واحد متساوٍ، مما يجعلها هيئة عالمية بحق.
سيُشعر بغيابها أكثر في البلدان منخفضة الدخل. كثير منها يفتقر إلى البنية التنظيمية اللازمة للموافقة على الأدوية أو اللقاحات ويعتمد على المنظمة في ذلك. من دونها سيحرم الناس من علاجات أساسية أو يتلقون علاجات غير آمنة وغير مدققة — وسيقع ضحايا.
سنخسر أيضاً أنظمة الاستعداد للجائحات الحيوية. نظام المراقبة والاستجابة للإنفلونزا التابع لمنظمة الصحة العالمية يعمل منذ خمسين عاماً وبنى ثقة عميقة مع الحكومات. لا يقتصر عمله على الإنفلونزا فحسب، بل يتتبع الفيروسات الرئيسية كلها، موفِّراً إنذارات مبكرة للدول عند اندلاع بؤر. مثلاً، يراقب حالياً فيروس H5N1 المنتشر بين الحيوانات في أميركا الشمالية؛ التقاط الإنسان له من الحيوان حصل، لكن انتقاله من إنسان إلى إنسان يبقى مسألة طفرات — والأمم المتحدة تتابع ذلك عن كثب بالرغم من تخفيضات التمويل.
قضية عدالة الحصول على اللقاحات محورية أيضاً. خلال جائحة كوفيد-19 كافحت دول أصغر للحصول على اللقاحات حتى تدخلت منظمة الصحة العالمية. كما تُحمي الفئات الفقيرة من استغلال المصالح التجارية من خلال وضع معايير صحية عالمية وتبيان عوامل الخطر.
المنظمة بعيدة عن الكمال — يمكن تحسين الحوكمة والكفاءة — لكن العالم لا يستطيع أن يعمل بأمان بدونه؛ غيابه سيترك فراغاً لا تستطيع أي حكومة أو منظمة منفردة ملؤه.
د. سوميا سواميناثان، اختصاصية طب الأطفال ورئيسة العلماء السابقة في منظمة الصحة العالمية
عامل يرتّب مساعدات منظمة الصحة العالمية على متن طائرة إماراتية متجهة إلى مطار العريش بمصر في 24 يناير 2025، ضمن مهمة إنسانية نظمتها الإمارات لغزة [فاضل سنا/أ ف ب]
من سيدير المساعدات؟
لو اندثرت الأمم المتحدة، سيتعين علينا مواجهة مدى اعتقادنا بأن هذه المؤسسات من المسلمات. الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والوكالات مثل USAID تفعل خيراً هائلاً — فهي تملك الانتشار والتمويل والبنية التحتية لتغيير ملايين الحيات. منظمات المجتمع المدني الأصغر تترك أثراً حقيقياً، لكنها نادراً ما تملك الحجم أو الاستقرار للحفاظ على برامج عالمية.
حين أدرت مبادرة لبيانات صحية بتمويل يقارب مليون دولار أسبوعياً لصالح USAID، بدا الأمر عملاً تنموياً تقليدياً — مساعدة الدول على جمع واستخدام البيانات لتوجيه السياسات. مع الزمن اكتشفت كيف أن الأولويات السياسية في واشنطن تشكّل ما يمكننا وما لا يمكننا فعله.
الأمم المتحدة والهيئات المشابهة لا تقدم المساعدات فحسب؛ بل كثيراً ما تعزز سردية الشمال العالمي: نحن متقدمون وأنتم لستم كذلك؛ للتقدُّم يجب أن تصيروا مثلنا. هذا التأطير لا يزال يحمل إرث الاستعمار. تجارب إلغاء الاستعمار في المساعدات جارية، لكنها غير متسقة ونصف مكتملة.
لو اختفت الأمم المتحدة فجأة، سنهرع لملء الفراغ بمنظمات أصغر ومحلية أكثر. قد يجعل ذلك المساعدات أكثر تنوعاً وجذوراً محلية — لكنه قد يجعلها أيضاً مجزأة وهشة وغير مؤكدة. التحدي الحقيقي سيكون في تخيل وبناء شيء مختلف حقاً.
بروفيسور جيمس توماس، مؤلف “كنت أود أن أفعل الخير: إعادة تعلم طرق مساعدة تحررت من الاستعمار”؛ أستاذ فخري بكلية الصحة العامة، جامعة نورث كارولاينا في تشابل هيل
الأونروا توزع طرود مساعدات للفلسطينيين في غزة وسط أزمة غذائية [أرشيف: الأناضول]
كيف ستعمل الدبلوماسية الدولية؟
بإلغاء الأمم المتحدة، ستنهار كثير من الأوهام المتعلقة بوجود معايير دولية مشتركة. ستتحول الدبلوماسية بشكل حاسم نحو ترتيبات ثنائية وإقليمية، ليصبح الانخراط العالمي علنياً عملية تبادلية بحتة.
في الحقيقة، الدبلوماسية تعمل إلى حد كبير هكذا بالفعل — نهج شخصيات مثل ترامب لم يفعل إلا كشف القناع عن النظام القائم على المعاملات. مع ذلك، توفر أُطر الأمم المتحدة، مهما شابها من خلل، نقطة مرجعية للقانون الدولي والضغط الأخلاقي في أزمات وصراعات. من دونها سيزول حتى ذلك النفوذ المحدود، وسيطيح العبء على الفئات الضعيفة.
معاهدات كثيرة مدعومة من الأمم المتحدة تحاول صون المعايير الدولية ستفقد فعاليتها أو أهميتها. في الواقع، نرى هذا التآكل بالفعل — وجود الأمم المتحدة لم يعد ضمانة لحماية هذه المعايير. إلغاؤها سيعجل بالانهيار، مع محاولات تكتلات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الأفريقي ملء الفراغ، رغم أن أياً منها لا يمكنه نسخ نطاق الأمم المتحدة العالمي أو شرعيتها.
هـ.أ. هيليير، معهد الخدمات المتحدة الملكي ومركز التقدم الأميركي
مقاعد فارغة بينما يخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة بمقر المنظمة في نيويورك، 26 سبتمبر 2025 [كيتلن أوكس/رويترز]
ماذا سيحدث لأهداف المناخ؟
مهما كانت عيوبها، تظل الأمم المتحدة المنتدى الوحيد الذي يستطيع فيه العالم التحدث بصوت موحّد بشأن تغيّر المناخ واتخاذ قرارات ملموسة مثل صندوق المناخ الأخضر، وإطار عمل الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ، واتفاقية باريس.
الأمم المتحدة تجسد مبادئ العدالة والإنصاف في إدارة أزمات المناخ، وهي المنصة التي تُصاغ عبرها الالتزامات والآليات المالية والتقنية التي يحتاجها العالم لمعالجة هذه القضية العابرة للحدود. هذا يفسّر إلى حدٍّ ما كيف أن الأمم المتحدة، رغم عيوبها، أدّت دورًا مهمًا في توفير الموارد للدول الصغيرة والنامية، مساهمةً بذلك في تيسير الانتقال الذي تحتاجه.
بدون هذا الإطار، لا أرى أي فرصة لأن تنهض الدول المتقدمة بمسؤولياتها. أظن أننا سنشهد سريعًا أن تُطغى الأزمة المناخية بقوى السوق والنيوليبرالية، ويصبح الحديث عن «التخفيف» سائداً بين الدول الأغنى، في حين لا يُقدّم أي دعم للدول الفقيرة والنامية.
تشوكوميريجي أوكيركي، أستاذ الحوكمة العالمية للمناخ والبيئة، جامعة بريستول
رجل يسير وسط حطام منزل متضرّر بعد مرور إعصار ميليسا في قرية بوكا دي ديوس ريوس بمقاطعة سانتياغو دي كوبا، كوبا، في 30 أكتوبر 2025 [أ ف ب]
ما الذي سيفتقده العالم أيضًا؟
نظام الأمم المتحدة مجموعة مؤسسات معقّدة إلى درجة مذهلة.
هو أكثر من مجرد مجلس الأمن والجمعية العامة؛ فهناك عدّة وكالات فنية تتناول شبكات الاتصالات والملكية الفكرية وغير ذلك.
هذه المؤسسات تنظّم أساسًا بنية عالم مترابط. لو أُغلقت، لوجدنا أنّ مجموعة واسعة من التفاعلات الدولية الروتينية ستتوقّف.
أُشبِهها بـ«الواي فاي للتعددية»: لا تلتفت إلى وجودها في الغالب لأنّها تعمل، لكنّك إن فقدتها ستدرك كم أنك تحتاجها.
ريتشارد بيرقون، مدير شؤون الأمم المتحدة والدبلوماسية متعددة الأطراف، مجموعة الأزمات الدولية