إعمار غزة يبدأ داخل الفصول الدراسية في ظل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

مرَّت أسبوعان منذ أن اجتمع قادة العالم في شرم الشيخ وأعلنوا، مرة أخرى، أن طريق السلام في الشرق الأوسط قد أُعْثر عليه. وكما في بيانات سابقة من هذا النوع، تُرك الفلسطينيون — أولئك الذين ينبغي أن يعيِشوا هذا السلام — خارج المعادلة.

اليوم تُمسك إسرائيل بوقفٍ هش لإطلاق النار رهينةً بينما ينغمس العالم في البحث عن جثثٍ متبقية لأسرىٍ ماتوا. لا يُسمع حديث عن حق الفلسطينيين في البحث عن موتاهم وتكريمهم، ولا عن حريتهم في النَّوح العلني على الفقدان.

يُلوح أمام سكّان غزة مفهومُ الإعمار كطُعم. أولئك الذين ينادون به من الخارج يتخيلون، على ما يبدو، مجرد تطهير أنقاض وصبّ خرسانات وتأهيل بنى تحتية. لكن لا أحد يتحدث عن إعادة بناء البشر — عن استعادة مؤسساتهم وكرامتهم وإحساسهم بالانتماء.

وهذا بالذات ما يحتاجه الفلسطينيون. يجب أن يركز الإعمار الحقيقي على أهل غزة، وأن يبدأ ليس بالأسمنت بل باستعادة الفصول الدراسية ونظام التعليم. يجب أن يبدأ بالشباب الذين نجوا من ما هو لا يُتَصَوَّر ورغم ذلك يجرؤون على الحلم. من دونهم — ومن دون المعلمين والدارسين الفلسطينيين في الصدارة — لن يصمد أي مشروع إعادة إعمار.

إعمار بلا استبعاد

الخطط المتداولة حالياً لحكم وإعمار غزة تستثني أكثر الفلسطينيين تضرراً من هذه الجريمة. كثير من هذه الخطط مصمَّم لتأمين السيطرة لا لتمكين الناس — لتثبيت مشرفين جدد بدل رعاية قيادات محلية. تُعطى الأولوية لأمن إسرائيل على حساب رفاه الفلسطينيين وحقّهم في تقرير المصير.

لقد رأينا ما تؤول إليه مثل هذه الاستبعادات في السياق الفلسطيني: تبعية، إحباط ويأس. وكباحثين عملنا سنواتٍ طويلة مع أكاديميين وطلاب فلسطينيين، رأينا أيضاً الدور المركزي الذي يلعبه التعليم في المجتمع الفلسطيني.

لذلك نؤمن أن الإعمار يجب أن يبدأ بالتعليم، بما في ذلك التعليم العالي. ويجب أن تُقود هذه العملية وتشارك فيها القيادات الفلسطينية أنفسهم. لقد برهن المربّون والأكاديميون والطلاب الفلسطينيون على قدرتهم على الصمود وإعادة البناء.

يقرأ  إضفاء مغزى على التطوير المهني في الفصول الدراسية المعاصرة

مثلاً، كانت جامعات غزة مثالاً على المرونة. حتى عندما دُمرت حُرماتهم، واصل الأساتذة والباحثون التدريس والبحث في ملاجئ مؤقتة وخيام وساحات عامة — حافظين على شراكات دولية ومنحين المئات من الشباب هدفاً ومعنى.

في غزة لا تقتصر الجامعات على أماكن للدراسة؛ بل هي ملاذات للفكر والرحمة والتضامن والاستمرارية — البنية التحتية الهشة للخيال.

من دونها، مَن سيُؤهل الأطباء والممرضين والمعلمين والمهندسين والمعماريين والمحامين الذين تحتاجهم غزة؟ من سيهيئ مساحات آمنة للحوار والتفكير واتخاذ القرار — أسُس أيّ مجتمع فاعل؟

ندرك أنه لا يمكن أن تكون هناك مستقبلية قابلة للحياة للفلسطينيين من دون مؤسسات تعليمية وثقافية قوية تعيد الثقة وتستعيد الكرامة وتحافظ على الأمل.

تضامن لا أبويّة

خلال العامين الماضيين حصل شيء استثنائي: أصبحت الحُرم الجامعية في شتى أنحاء العالم — من الولايات المتحدة إلى جنوب أفريقيا، ومن أوروبا إلى أمريكا اللاتينية — مواقع يقظة أخلاقية. وقف الطلاب والأساتذة معاً ضدّ ما يحدث في غزة، مطالبين بإنهاء الحرب ومطالبين بالعدالة والمساءلة. أقاموا اعتصامات وسهرات وتأخيريات، مذكرين الجميع بأن الجامعات ليست مجرد فضاءات للتعلّم بل أفران للضمير.

هذه الانتفاضة العالمية داخل التعليم لم تكن رمزية فحسب؛ بل كانت إعادة تأكيد لغاية العلم. حين يغامر الطلاب بعقوبات أكاديمية دفاعاً عن الحياة والكرامة، يذكروننا أن المعرفة المنفصلة عن الإنسانية لا معنى لها.

لا بد أن يحدد التضامن الذي أُظهر هذا المسار في كيفية تعامل مؤسسات التعليم العالي مع انخراطها في إعادة بناء جامعات غزة.

على الجامعات العالمية أن تستمع وتتعاون وتلتزم على المدى الطويل. يمكنها بناء شراكات مع مؤسسات غزة، مشاركة الخبرات، دعم البحث والمساهمة في إعادة بناء البنية الفكرية للمجتمع. الزمالات، المشروعات المشتركة، التدريس عن بُعد والموارد الرقمية المفتوحة خطوات صغيرة يمكن أن تُحدث فرقاً كبيراً.

يقرأ  بعد عام على ادعاءات مقتل حسن نصرالله: حزب الله يرفض نزع السلاح

مبادرات مثل “أصدقاء الجامعات الفلسطينية” (Fobzu)، ومؤتمرات جامعات مثل غلاسغو وHBKU، وبرامج مؤسسة قطر/التعليم فوق الجميع، أظهرت بالفعل ما يمكن أن تحققه التعاونات المستدامة. يجب أن يتسع هذا الروح التضامني — مُرتكزاً على الاحترام والكرامة وموجهًا بقيادات فلسطينية.

للجالية الأكاديمية العالمية واجب أخلاقي بالوقوف مع غزة، لكن التضامن لا ينبغي أن يتحول إلى أبويّة. لا ينبغي أن يكون الإعمار عملاً خيرياً؛ بل يجب أن يكون فعل عدالة.

قطاع التعليم العالي الفلسطيني لا يحتاج إلى مخططات غربية جاهزة أو قوالب استشارية. يحتاج إلى شراكات تستمع وتستجيب، تبني القدرات وفق شروط الفلسطينيين. يحتاج إلى علاقات ثقة على المدى الطويل.

بحث ينقذ أرواحاً

الإعمار ليس أمراً تقنياً بحتاً؛ إنه مسألة أخلاقية. يجب أن تنبع منظومة سياسية جديدة من داخل غزة نفسها، تتشكّل عبر التجربة لا عبر نماذج مستوردة. العمل البطيء عبر الأجيال للتعليم هو السبيل الوحيد للخروج من دوامات الدمار المتكررة.

التحديات المقبلة تتطلب براعة علمية وطبية وقانونية. مثلاً، الأسبستوس القادم من المباني المدمّرة يلوّث هواء غزة ويهدد بوباء من سرطان الرئة. هذا الخطر يتطلب تعاوناً بحثياً عاجلاً وتبادل معرفة. يحتاج الأمر إلى وقت للتفكير والبحث، مؤتمرات واجتماعات وتبادل منح — شرايين النشاط الأكاديمي الطبيعي.

ثم فوضى ملكية العقارات والتركات في أرضٍ جُرِفت على يد جيشٍ مُبيد. سيحتاج الأمر إلى محامين وعلماء اجتماع لمعالجة الأزمة وإعادة الحقوق وتسوية النزاعات وتوثيق الدمار من أجل مستقبل العدالة.

وهناك أيضاً جرائم الحرب المتعددة التي ارتُكبت ضد الشعب الفلسطيني. سيحتاج الأمر علماء آثار جنائيين ولغويين ونفسيين وصحفيين ليساعدوا الناس على معالجة الحزن، والحفاظ على الذاكرة، والتعبير عن الخسارة بكلماتهم الخاصة.

كل تخصص له دورٌ يُؤدى. التعليم يربط بينها، يحوّل المعرفة إلى بقاء — والبقاء إلى أمل.

يقرأ  فودكا ملوَّثة بالميثانول تودي بحياة ٢٥ شخصًا على الأقل في روسيا

حفظ الذاكرة

حين تحاول غزة المضي قدماً من تحت وطأة الإبادة، ينبغي أن تتوفر لها مساحة للحداد وحفظ الذاكرة؛ لأن سلاماً بلا حقيقة يتحوَّل إلى نسيان. لا تجديد بدون حزن، ولا مصالحة بدون تسمية الخسارة.

كل منزلٍ مُهدم، وكل عائلةٍ تلاشت تستحق أن تُوثّق وتُعترف بها وتُذكر كجزءٍ من تاريخ غزة، لا أن تُمحى باسم التنازل عن الأولويات. ومن خلال هذه العملية الصعبة ستنبثق حتماً مناهج جديدة للرعاية. أعمال التذكّر تشكّل حجرَ الزاوية في العدالة.

يمكن للتعليم أن يساعد هنا أيضاً — عبر الأدب والفن والتاريخ والروحانيات — مانحاً شكلاً للحزن ومحوِّلاً إياه إلى تربةٍ ينمو منها الصمود. وفي هذا المشهد الهش والمدمَّر لغزة يمكن للعالم الحيّ غير الإنساني أن يَبرأ أيضاً من خلال التربية، وعندها فقط سيعود إلى الأرض ما “يجعل الحياة تستحق أن تُعاش” — لاستعارة بيتٍ من محمود درويش.

طبعاً سيحتاج إعادة إعمار غزة إلى رافعات ومهندسين، لكن أكثر من ذلك سيحتاج إلى معلمين وطلاب وباحثين يعرفون كيف يتعلّمون وكيف يمارسون بمهارة. يبدأ عمل السلام ليس برافعات الخرسانة بل بالفضول والرحمة والشجاعة.

حتى في وسط الأنقاض، وفي ما تناثر من أشلاءِ أعزاءٍ من الهيئة التدريسية والطلبة الذين فقدناهم، لا تزال جامعات غزة حية. إنها حِرَاسُ الذاكرة وصنّاعُ المستقبل — الدليل على أن التعلّم بحدّ ذاته فعل مقاومة، وأن التعليم هو ويجب أن يبقى الخطوة الأولى نحو سلام مستدام.

الآراء المعبر عنها في هذه المقالة تعبّر عن كاتبيها ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق