الجوع — الغذاء وحده لا يُنقِذ جياع غزة

فرضت إسرائيل مجاعة مصطنعة على سكان غزة منذ بدء عدوانها على القطاع في أكتوبر 2023، وتفاقمت هذه الحملة بشكل حاد بعد مارس 2025 حينما ضيّقت سلطات الاحتلال الصهيوني دخول المساعدات القليلة أصلاً إلى القطاع. منذ ذلك الحين لقي المئات من الرجال والنساء والأطفال حتفهم جراء سوء تغذية حاد. الأطباء يعيشون على فتات خبز وقليل من الزيت يومياً، وغالباً ما يضطرون إلى شرب ماء البحر لتعويض أملاح الدم الحيوية. الصحفيون باتوا ضعفاء جداً عن أداء مهامهم، والرجال أصبحوا هزيلين لدرجة أن المخاطرة بالذهاب إلى مواقع توزيع الغذاء تكاد تكون مستحيلة. السكان صاروا يشبهون جلدًا مشدودًا فوق عظامهم.

تلك الصورة المرعبة لسوء التغذية الشديد ليست جديدة على التاريخ؛ آثارها الجسدية موثقة جيداً: توقّف أجهزة الجسم الواحد تلو الآخر، وغلبة التعب على الضحايا، وبدء الجسم في تناول أنسجته حتى الهلاك. بين 1920 و1940 في الاتحاد السوفييتي وردت روايات مشابهة؛ انهار فنانون أثناء العروض وماتوا في مواضعهم، وسقط الناس ميتين في الشوارع كما لو أنهم غفوا. وصلت حالة اليأس إلى درجة أن سجلات المحاكم تروي أن أمًّا شرخت زوجها الأَجْنَبِي —أو المَرْكُوب— بعد أن ظنته ميتًا لتطعم أطفالها.

ما يغفَل عنه كثيرون أن التعافي من المجاعة قد يكون مدمرًا بالمثل. ومن المفارقة أن أقدم الملاحظات المسجّلة عن هذه الظاهرة تعود إلى حصار القدس عام 70 م. لمدة خمسة أشهر، وبقيادة تيطس ابن الإمبراطور فسباسيان، قطع الجيش الروماني كل الإمدادات عن المدينة اليهودية المقدسة آنذاك. مثل سكان غزة اليوم، كان أهل القدس هزالى، موبوءين بالأمراض، مضطرين إلى أكل الجلود. وبعد اقتحام الرومان وبسط سيطرتهم، أفاد فلافيوس يوسيفوس، القائد اليهودي الذي انشق لصالح الرومان، أن كثيرين ممن نجوا ماتوا فور تناولهم للطعام: استعاد المجهدون التغذية فجأة فتهيجت أجهزتهم إلى حد القيء والموت خلال ساعات.

يقرأ  يويفا يرفع لافتة مناشدة من أجل غزة بعد تداعيات احتفاء فلسطيني

بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت تقارير مماثلة بين أسرى الحرب اليابانيين؛ الجنود الناقصو التغذية الذين حرروا في الفلبين وغينيا الجديدة ومواقع أخرى انقضّوا على طعام عالي السعرات، فمات واحد من كل خمسة تقريباً بسبب عملية إعادة التغذية هذه. أظهرت الفحوصات الطبية ضمورًا في الأعضاء وفشلًا قلبيًا ومضاعفات خطيرة أخرى. وتكررت ملاحظات مماثلة بين المدنيين الجائعين بعد عمليات الإغاثة، وفي المرضى بعد العمليات الجراحية، وفي مرضى فقدان الشهية العصبي والمُدمنين على الكحول.

المتلازمة المعروفة اليوم باسم «متلازمة إعادة التغذية» تصف تحوّلاً أيضياً مفاجئاً وخطيراً من حالة هدم إلى حالة بناء. في أثناء المجاعة يكبح الجسم إفراز الإنسولين ويعتمد على تحلل العضلات والدهون، مما يستنزف أيونات داخل الخلايا. عند استئناف التغذية يتدفّق الإنسولين، فتندفع الجلوكوز والكهارل إلى الخلايا، وهذا النقل المفاجئ يخفض سريعًا مستويات الفوسفات والبوتاسيوم والمغنيسيوم في الدم. كما يشجّع الإنسولين احتباس الصوديوم والماء في الدورة الدموية، مما يؤدي إلى حمولة سائلة زائدة. إذا لم يُعالَج ذلك، قد تتعرض القلوب والرئتان والأعصاب والدم لأضرار كارثية، فتحدث اضطرابات نظم القلب وفشل التنفّس ومخاطر وفاة فورية.

من المهم التأكيد أن متلازمة إعادة التغذية ليست مجرد «سعرات حرارية كثيرة بسرعة»؛ إنها صدمة أيضية تحتاج إلى تدخل منظم. مجرد ضبط الوجبات غير كافٍ؛ يلزم بدء العلاج بتعويض الأملاح والفيتامينات قبل البدء في التغذية الفعلية. يتطلب ذلك فريقًا متعدد التخصصات ماهرًا وفحوصات مخبرية دورية لضمان سير التعافي بأمان. الصيادلة والأطباء النفسيون وفنيو المختبرات وغيرهم من الاختصاصيين يجب أن يعملوا بتناسق لإعادة تغذية المرضى الناقصي التغذية وإعادة تأهيلهم.

في سياق ما يحدث في غزة، تخيل توفير هذا النوع من الرعاية أمر محزن ومؤلم. بنيتها الصحية انهارت؛ الاطباء يعالجون الحالات الطارئة فقط، والمخدّرات شبه نفدت، ويُستخدم الخل—عند توفره—لتعقيم الجروح. تُجرى بترات لأطراف الأطفال وهم واعون وكلّهم ألم. هذا نظام لا يملك أدنى قدرة على إعادة تأهيل ما يقرب من مليوني شخص مُجاعَين. وتعمل إسرائيل عمداً على ضمان ذلك عبر حصار الإمدادات الطبية واستهداف العاملين في القطاع الصحي وُقْتَالَ المستشفيات والإسعاف.

يقرأ  إسرائيل تقصف مدينة غزة، فيما بريطانيا وحلفاؤها يدعون إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لاحتواء «المجاعة المتفاقمة»

للأسف لا يمكن الاعتماد على الجوعى لضبط إعادة تغذيتهم بأنفسهم. الجوع يشوّه التفكير ويجعل الشخص مهووسًا بالطعام؛ تصبح فكرة «قد تكون هذه فرصتك الوحيدة فاكل قدر المستطاع» غالبة وقهرية. في متابعات تجارب أنسل كيز عن سوء التغذية لاحظ الباحثون أن بعض المشاركين الذين تعافوا عملوا لاحقًا في مجال الأغذية والمطاعم — دلالة على تأثير التجربة العميق على السلوك الغذائي. واقعياً، لا يمكن توقُّع أن ينظّم شخص متهالِك تغذيته عندما تتاح له الطعام.

لذلك من الضروري المطالبة بضغوط دولية فورية على إسرائيل للسماح بدخول معدات طبية ومختبرات وفرق تخصصية إلى غزة فورًا، والأهم من ذلك التوقف عن استهداف العاملين في القطاع الصحي والمنشآت الطبية. هذا الأمر لا يقل أهمية عن دخول المساعدات نفسها. لدى الحكومات الغربية أدوات وضغط يمكنها أن تمارسه لإجبار إسرائيل على وقف العدوان وفتح المجال للمساعدة الإنسانية والطبية، لكنها تختار عدم استخدامها، وبالتالي فهي متواطءون في واحدة من أبشع المآسي الإنسانية المعاصرة. على المواطنين حول العالم الضغط على حكوماتهم للتحرك. يجب أن نعي أن وصول المساعدات دون بنية طبية مصاحبة سيؤدي على الأرجح إلى وفاة آلاف من متلقيها جراء متلازمة إعادة التغذية.

الآراء الواردة أعلاه تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق