جنوب شرق آسيا يرحّب بترامب… ويكافح الرياح المعاكسة التي أطلقها — أخبار الحرب التجارية

جنوب شرق آسيا بين تضييق التعريفات وتدفّق البضائع الصينية

منذ حرب التعريفات التي أشعلها رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب عام 2018، كانت دول جنوب شرق آسيا من أكبر المستفيدين، إذ جذبت المنطقة مصنّعين هاربين من الرسوم الجديدة على السلع الصينية. استفادت الدول من دخول استثمارات جديدة، وإيرادات ضريبية متزايدة، ونقل للتقنيات نتيجة تمدّد مفهوم سلسلة الإمداد «الصين زائد واحد».

ومع عودة الضغوط التجارية في جولة جديدة من النزاع بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، تغيّرت الصورة كلياً بعد سبع سنوات. فتعريفات جديدة فرضتها واشنطن تهدّد اقتصاديات مُعتمدة على التصدير، وفي المقابل تتدفّق كميات أكبر من السلع الصينية صوب الأسواق الإقليمية بحثاً عن بدائل للسوق الأمريكية.

بحسب جايانت مينون، الباحث الكبير في معهد إيسيس–يوسوف إشاك في سنغافورة، تسعى دول المنطقة لموازنة علاقاتها تجنّباً لاصطفاف واضح بين واشنطن وبكين، لأن كليهما شريك اقتصادي أساسي. لكن العلاقة مع الولايت المتحدة شهدت توتّراً ملحوظاً منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض مع وعود بخفض العجز التجاري عبر فرض رسوم على شركاء تجاريين عدة.

في أبريل الماضي تعرضت بلدان جنوب شرق آسيا لصدمات تعريفية حادة عندما أعلن ترامب رسوماً بلغت 49% على كمبوديا، و48% على لاوس، و46% على فيتنام. وحتى حليفتيه العسكريتين، تايلاند والفلبين، طالتا رسوماً مبدئية بلغت 36% و17% على التوالي. تراجع معظم هذه النسب لاحقاً بعد مفاوضات ثنائية إلى نطاق 10–20% في أغلب دول رابطة آسيان، بينما ظلّت مستويات مرتفعة تصل إلى 40% في ميانمار ولاوس. كما أبقت واشنطن تعريفات على صادرات محددة مثل الحديد والألمنيوم وقطع غيار السيارات، وفي نهاية يوليو أعلنت البيت الأبيض رسماً إضافياً بنسبة 40% على ما يُسمى «عبور الشحنات» (transshipments).

المقصود بهذا الإجراء هو السلع التي تمر عبر دول المنطقة لتفادي تعريفات مفروضة مسبقاً على السلع الصينية، في وقت لا تزال موسكو وبكين — تقصد هنا بيكين وواشنطن — تتفاوضان على صفقة تعريفة منفصلة. هذه الخطوة وضعت نموذج «الصين زائد واحد» في مرمى استهداف واشنطن، وفق نيك مارّو، محلل التجارة العالمية في وحدة معلومات الإيكونوميست.

يقرأ  توجيه تهم رسمية إلى المدير

في ضوء هذه التطورات خفّض البنك الآسيوي للتنمية توقعاته لنمو جنوب شرق آسيا عام 2025 من 4.7% إلى 4.3% مع الإشارة إلى ظهور «بيئة تجارية عالمية جديدة» تشكلها التعريفات والاتفاقيات التجارية المحدثة، ونفس التوقّع طُرح لعام 2026 عند 4.3%.

على نحو متقابل، ارتفعت صادرات الصين إلى دول آسيان. أظهرت بيانات الجمارك الصينية ارتفاعاً بنسبة 12% إلى 586 مليار دولار في 2024، واستمر الاتجاه في 2025 حيث سجّلت الصادرات إلى المنطقة زيادة قدرها 14.7% لتبلغ 487.5 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام. وحجم التجارة الإجمالي مع آسيان ارتفع 8.6% ليصل إلى 776.7 مليار دولار في سبتمبر 2025.

أما الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة فشهدت تراجعاً؛ فقد بلغت 317 مليار دولار بين يناير وسبتمبر 2025، بانخفاض 16.9% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي. كما انخفض إجمالي حجم التجارة مع الولايات المتحدة 15.6% إلى 425.8 مليار دولار وفق بيانات الجمارك الصينية.

الخبراء يحذّرون من أن بيانات الجمارك وحدها لا تفسر حالات التحوّل المتوازية، لكنهم يحددون عاملين رئيسيين: تحويل سلاسل التوريد عبر دول جنوب شرق آسيا، وزيادة شحن السلع التامة الصنع من الصين إلى الأسواق الإقليمية بوصفها سوقاً نهائية. مينون يرى أن النمو المتزامن في صادرات جنوب شرق آسيا إلى الولايات المتحدة وعلى مستوى صادرات الصين إلى جنوب شرق آسيا يشير إلى وجود تحويل جزئي للتجارة عبر هذه الدول.

في 2024 صدّرت دول آسيان إلى الولايات المتحدة سلعاً وخدمات بقيمة 352.1 مليار دولار بزيادة 13.3% عن العام السابق، وهو ما يقارب ضعف قيمة صادراتها إلى الولايات المتحدة في 2017 قبل تفجّر الحرب التجارية الأولى.

غير أن الشركات الصينية لا تكتفي بالتموضع كجزء من سلاسل التوريد؛ فجزء متزايد من صادراتها موجه للاستهلاك النهائي داخل بلدان جنوب شرق آسيا. ليس هناك بيانات دقيقة تفصل بين المكونات المعاد تصديرها والمصنوعة للاستهلاك المحلي، لكن مسوحاً تشير إلى أن الغالبية تظل جزءاً من سلسلة التوريد بينما يزداد سهم السلع الموجهة مباشرة للمستهلك.

يقرأ  بوركينا فاسو تحظر المثلية وتفرض أحكامًا بالسجن وغرامات على المخالفين

في مسح أجرته شركة الاستشارات GLG شمل أكثر من 300 شركة في منطقة آسيا–المحيط الهادئ مصدّرة إلى الولايات المتحدة و30 مستورداً أمريكياً في يوليو، قال 66% من المصدرين الصينيين إنهم يبحثون عن أسواق بديلة للخروج من الاعتماد على السوق الأمريكية التي أصبحت «أكثر صعوبة وأقل قابلية للتنبؤ». وذكر 83% أن الاتحاد الأوروبي خيار بديل، بينما أشار 71% إلى آسيان كسوق محتمل.

المستهلكون في جنوب شرق آسيا قد يرحبون بتنوّع المنتجات عبر منصات التجارة الإلكترونية مثل Shein وTemu وعلي بابا ولازادا وشوبي، لكن هذا التدفق أيضاً يثير مخاوف بعض الصناعات المحلية التي تشعر بالضغط التنافسي. كما أن تدهور سعر الدولار وانعكاسه على عملات أخرى زاد من قدرة السلع الصينية على المنافسة، إلى جانب مشكلة هيكلية لدى الصين تتمثّل في إنتاج فائض يتجاوز الطلب المحلي. تفاقمت المشكلة بفعل التباطؤ الاقتصادي بعد الجائحة وانحسار الطلب المحلي، ما دفع الصين إلى البحث عن منافذ لتصريف طاقتها الإنتاجية الفائضة.

بينما سعى بعض المصدرين إلى فتح أسواق جديدة في الخارج، وُجهت اتهامات إلى آخرين بممارسة “إغراق الأسواق” عبر بيع بضائعهم بأسعار منخفضة اصطناعياً في دول مثل فيتنام وتايلاند وإندونيسيا.

قال مارّو: «بدينا نلمس قلقاً متزايداً لدى حكومات عدة خلال الأشهر القليلة الماضية من احتمال فيضان السلع الصينية إلى أسواق معينة. هذا لا يقتصر بالضرورة على هواتف أو مركبات كهربائية؛ بل يمتد أيضاً إلى سلع أساسية مثل الصلب وأنواع أخرى كالنسيج والملابس».

وأضاف: «هناك خطر كبير بأن تتأثر جنوب شرق الأسيا أيضاً بالتشوهات في اقتصاد الصين». (ملاحظة: هنا كلمة الأسيا بها سهو مطبعي)

كما أوضح كريس بيدور، نائب مدير أبحاث الصين في مؤسسة غافكال دراغونوميكس في بكين، أن مسألة ما إذا كانت صادرات بلد ما تشكل “إغراقاً” تبقى مسألة ذاتية تعتمد على وجهة النظر.

يقرأ  نحو خمسين زعيماً أوروبياً يلتقون لمباحثات حول الحرب في أوكرانيا والاقتصاد

ولفت إلى أن فتح تحقيق ضد دولة أخرى بتهمة الإغراق يمكن أن يكون خطوة مكلفة سياسياً واقتصادياً وقد تنتهي بفرض رسوم جمركية أو باضطرابات تجارية بين الطرفين، وهو مخاطرة لا ترغب كثير من الدول في المجازفة بها تجاه الصين.

وأوضح بيدور أن العديد من دول الآسيان عملياً لا تملك حوافز قوية لتوجيه الاتهامات إلى الصين بشأن الإغراق، لأن سلاسل التوريد تعيد توجيه نفسها وهي بدورها تسعى للحصول على حصة من هذه الفرص.

وشبّه ذلك بالنهج الذي اتخذته دول جنوب شرق آسيا تجاه الولايات المتحدة؛ بدلاً من رد الفعل الجماعي على تعريفات ترامب، اختارت القيادات الإقليمية التفاوض مع البيت الأبيض كل على حدة بحسب ما يفضل ترامب.

وحذّر إيان تشونغ، عالم السياسة في الجامعة الوطنية في سنغافورة، من أن هذه الاستراتيجية قد تكلف المنطقة على المدى الطويل: «هذا نتاج سياسة الآسيان السلبية بعدم اختيار جانب. ظنّوا أنهم قد يجدون من يدعمهم أو أن بكين وواشنطن ستسعيان لكسب تأييدهم؛ لكن هذا التفاؤل أغفل احتمال أن يتعرضوا للضغط من الطرفين. قد ينتهي بهم الأمر إلى عدم اضطرارهم لاتخاذ قرارات، لأن القرارات اتخذت لهم في أماكن أخرى».

وأعرب مينون من معهد إيسيس عن قلقه من أن المشكلات الأكبر قد تكون لا تزال في الأفق، خاصة أن الولايات المتحدة والصين لم تتوصلا بعد إلى اتفاق حول الرسوم الجمركية، وحتى في حال حدث ذلك فإن تقلبات ترامب قد تعيد الأمور إلى نقطة الصفر.

قال مينون: «خوفي الكبير أن ما نشهده ليس نهاية بل بداية عملية متواصلة من زيادة الرسوم. ترامب واضح بشأن أمرين: يحب الرسوم الجمركية، ويريد استخدامها لتقليل العجوزات الثنائية. الخلاصة: لا أظن أنه يمكن إيقافه». (يوجد هنا سهو مطبعي آخر: لايمكن فصلت بدون مسافة)

أضف تعليق