نادرٍ ما شهدت علاقة الجوار بين كندا والولايات المتحدة توتّراً حول التبعات العابرة للحدود مثل ذلك الناجم عن دخان حرائق الغابات هذا الصيف. تصاعدت أعمدة الدخان من حرائق واسعة في مقاطعة مانيتوبا نحو الجنوب مراراً، فغطّى السماء بهالة برتقالية وخلّف مخاوف صحية وشكاوى سياسية.
بعض النواب الجمهوريين في ولايات معنية أرسلوا رسائل رسمية طالبوا فيها بمساءلة كندا، ورفعوا شكوى إلى وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA)، مستنكرين أن “سماءنا تُخنق بدخان لم نُشعل ناره ولا نستطيع السيطرة عليه”، كما صاغ النائب الكندي الأصل كالفن كالاهان في رسالةٍ أواخر أغسطس. ردّ عليه رئيس وزراء مانيتوبا، واب كينو، بسرعة متّهماً النواب بـ”نوبة خشبية” ولعب “ألعاب سياسية”.
المقاييس الميدانية تُظهر أن موسم الحرائق في كندا تدهور فعلاً: بدأ مبكراً، انتهى متأخراً، وأصبح يحرق مساحات أكبر سنوياً. في 2023 اندلعت حرائق أحرقت نحو 15 مليون هكتار — مساحة أكبر من إنجلترا —، أما في 2025 فتمّ تسجيل نحو 8.7 مليون هكتار حتى الآن، ومع مطلع سبتمبر كانت أكثر من 500 حريق لا تزال نشطة، خصوصاً في بريتش كولومبيا ومانيتوبا. نصف هذه الحرائق تقريباً تُشعلها الصواعق، والنسبة الباقية مرتبطة بنشاط بشري، فيما يفاقم ارتفاع درجات الحرارة والجفاف قابلية الأراضي للاشتعال.
دراسة نُشرت في مجلة Nature في سبتمبر كشفت تأثيراً أوسع وأكثر فتكا لدخان حرائق 2023 في كندا، وقدّر الباحثون أنها تسببت بأكثر من 87,500 حالة وفاة حادة ومبكرة حول العالم، منها نحو 4,100 حالة في الولايات المتحدة وأكثر من 22,000 حالة في أوروبا. الدخان يحمل جسيمات دقيقة جداً (PM2.5) معروفة بتحفيز الالتهابات في الجسم، وقد تؤدي إلى تفاقم الربو وأمراض القلب، وحتى إلى اضطراب الروابط العصبية في الدماغ في بعض الحالات.
مايكل براور، أستاذ في جامعة كولومبيا البريطانية ومشارك في الدراسة، وصف الأرقام بأنها “كبيرة” واعتبر أن دخان الحرائق ينبغي أن يُعامل كقضية صحية خطيرة تقارب خطورة أمراض مثل سرطان الثدي أو البروستاتا. لكنه في الوقت نفسه اعتبر أن توجيه اللوم أُحادي الجانب على كندا هو تشتيت غير مفيد، ودعا إلى التعاون وإلى كيفية التأقلم مع واقع “العيش مع الدخان”.
خبراء المناخ والحرائق في البلدين يقولون بالإجماع تقريباً إن الحلول القصيرة لدى كندا محدودة طالما أن ظاهرة التغير المناخي المدفوع بالبشر تتقدم. كما قال مايك فلانيغان، خبير إدارة الطوارئ وعلوم الحرائق في جامعة تومسون ريفرز، إن المشكلة لن تزول ما لم تتعامل المجتمعات عالمياً مع جذور التغيير المناخي.
الولايات المتحدة واجهت هي الأخرى حرائق مدمرة مؤخراً، مثل حرائق هاواي في 2023 التي أودت بحياة مئات، وحريق باليسيدس في لوس أنجلوس في يناير الماضي. البلدان غالباً ما يتشاركان الموارد في مواجهة الكوارث: طائرات مكافحة حرائق كندية عملت في كاليفورنيا، وأكثر من 600 من رجال الإطفاء الأمريكيين توجهوا شمالاً لدعم الجهود الكندية هذا العام.
داخل كندا، أعادت موجة الحرائق الجدل حول الحاجة إلى خدمة وطنية متخصصة لمكافحة حرائق الغابات، إذ إن الاستجابة الحالية تُدار على مستوى المقاطعات والأقاليم بشكل متناثر لم تعد مجدية كما كانت قبل أربعة عقود. باتت مقترحات مثل الحرائق المراقبة (controlled burns) والممارسات التقليدية للمجتمعات الأصلية، وإزالة المواد القابلة للاشتعال قرب التجمعات السكنية، واستثمار التكنولوجيا للرصد المبكر، مطروحة بقوة، مع إدراك أن جميعها ستستمر في إنتاج دخان بدرجات متفاوتة.
في خطوة عملية، أعلنت كندا في أغسطس عن تخصيص أكثر من 47 مليون دولار لتمويل أبحاث تهدف إلى تعزيز قدرة المجتمعات على الاستعداد والتخفيف. ومع ذلك، يحذر باحثون مثل جين بيفرلي من جامعة ألبرتا من أن بعض نظم حرائق الغابات في كندا ذات كثافة عالية تجعل الاحتواء الكامل أمراً صعباً تحت شروط مناخية قصوى؛ وقالت إن جزءاً من المشكلة العالمية يرتبط بانبعاثات الكربون، حيث تحتل الولايات المتحدة مركزاً متقدماً بين الملوّثين عالمياً خلف الصين، فما من شك أن سياسات الانبعاثات لها أثر.
البروفيسورة شيلا أولمستيد من كورنيل نبهت إلى أن التاريخ المشترك في التعاون حول التلوث والمناخ — كهذا الاتفاق الثنائي حول جودة الهواء عام 1991 لمعالجة الأمطار الحمضية — يمكن أن يكون إطاراً مفيداً اليوم. وأضافت أن المنفعة ستعود على الطرفين إذا تعاونا عملياً بدل تبادل الاتهامات.
الملف المقدم إلى وكالة حماية البيئة الأمريكية قيد المراجعة، ولم يتضح بعد ما هي صلاحيات الوكالة للتعامل مع هذه الشكاوى عبر الحدود. أما الرسالة الأهم بحسب الخبراء فهي أن آثار المناخ الأكثر دفئاً لم تعد محلية حصراً؛ بعض الآثار تتّسم بالطابع العابر للقارات. الخلاصة العملية لبراور وغيره أن الدخان “لن يختفي” قريباً، لكن بالإرادة والتخطيط يمكن تقليل الوفيات والمصابّات المستقبلية والحدّ من الأضرار.