أعلنَت ليبيرياا في أواخر الشهر الماضي أنها ستستقبل مؤقتًا المواطن السلفادوري كيلمار أرمندو أبرِيجو غارسيا لأسباب «إنسانية» حال نُفِّذتْ عليه محاولة ترحيل ثانية من إدارة ترامب، فكانت تُبثّ عبر هذا القرار صورة تاريخية فريدة عن بلد اعتُبِر ملاذًا للمهاجرين السود الهاربين من العنصرية والعبودية الاقتصادية في الولايات المتحدة.
وفقًا للحكومة الليبيرية، جاء قرار الترحيب بأبرِيجو غارسيا — الذي طُرِدَ من الولايات المتحدة بصورةٍ غير قانونية في مارس ثم عاد بأمرٍ قضائي في يونيو — امتدادًا لـ«تقليد طويل» يقدم الملجأ لمن يحتاجون الحماية.
تحتجز ذاكرة تأسيس ليبيريا جذورًا معقّدة. فقد كانت إقليمًا شبه مستقل بدعم جزئي من جمعية الاستيطان الأمريكية التي ضمّت رجالًا بيضًا نافذين اعتبروا السود الأحرار خطرًا على نظام الرق ورأوا في ترحيلهم حلاً. تأسّس البلد على أيدي عائدين من الولايات المتحدة ومنطقة الكاريبي انضمّ إليهم أشخاص أمِنوا من سفن العبيد غير المشروعة في حوض نهر الكونغو؛ ورفض هؤلاء منحة الجمعية وأعلنوا استقلالهم عام 1847.
المؤسسون من الأحرار والسابقين في العبودية يشتركون جزئيًا في بعض أوجه التشابه مع حالة أبرِيجو غارسيا: كلاهما يُظهِر كيف صارت أجساد السود والبُنَيَّة تُصنَّفُ كغير مرغوبة ومهدِّدة وبالتالي قابلة للتخلص. لكن أوجه التشابه تتوقّف عند هذا الحد. فالولايات المتحدة لطالما رحّلت مهاجرين ملونين إلى ليبيريا، لكن سياق ذلك في القرن التاسع عشر كان مختلفًا: كثيرون اختاروا الاستقرار في غرب أفريقيا طوعًا بل دفع بعضهم ثمن رحلته.
ترحيل أبرِيجو غارسيا في القرن الحادي والعشرين سيكون قسريًا وغير مبرر، لا سيما وأنه صرّح برغبته الصريحة في الانتقال إلى كوستاريكا بدلًا من ذلك. قضيته ذات بروز إعلامي تشكّل اختبارًا لمدى التزام النظام القضائي بالإجراءات النافذة واحترام حقوق الإنسان في ظلّ جنون سياسة «اجعل أمريكا عظيمة ثانية». وموافقة ليبيريا على استضافته لم تقف عند حد التعرض لمعركة قانونية فحسب، بل طالت مصداقيتها الإنسانية بعد أن اكتفت بتعهدات غامضة حول التشاور مع «الجهات الوطنية والدولية المعنية».
البلد الأفريقي هو الأحدث في سلسلة دولٍ قَبِلَتْ، أو ضُغطَ عليها أن تقبلَ، بسياسة الرئيس الأمريكي — الذي سبق وأن وصف القارة الإفريقية بتعابير مهينة — ويمارس تكتيكات الإكراه هذه. والمفارقة المُرّة أن ترامب نفسه، كمُدان، لو كان مهاجرًا ملونًا لكانت أحكام الترحيل قد طابقته.
أفريقيا: «مكبٌّ» لمرحَّلي أمريكا
الغالبية العظمى من الدول التي وُضِعَت تحت ضغط قبول المرحَّلين من أمريكا تقع في أفريقيا. وصل ثمانية رجال إلى جنوب السودان في يوليو بعد أن أذنَت المحكمة العليا الأمريكية ذات التوجه المحافظ بطردهم. في أسابيع تلت ذلك، حُبِس مواطنون من كوبا ولاوس والمكسيك وميانمار وجنوب السودان وفيتنام تحت حراسة عسكرية أمريكية في حاوية شحن مُحوَّلة في جيبوتي.
تلا ذلك بسرعة رحلات جوية نقلت مرحّلين سودًا وبُنيِّي البشرة إلى دول أفريقية أخرى. في منتصف يوليو، وبعد «شهور من اللقاءات الرفيعة المستوى»، نُفي خمسة مدانين إلى مملكة إسواتيني الصغيرة المنغلقة. وفي منتصف أغسطس حطَّ سبعة مرحَّلين في رواندا، البلد الذي صار في السنوات الأخيرة محطة لاستقبال مهاجرين مطرودين من أوروبا وأمريكا.
ترحيل أشخاص إلى دول ثالثة في أفريقيا — أو إلى أي مكان آخر — دون إجراءات قانونية عادلة يُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، حتى لو حاولت الولايات المتحدة تبرير التخلص من من تُزعم إدانتهم بأي وسيلة. قبل أن يسعى البيت الأبيض إلى تعاون ليبيريا مؤخرًا، كان قد راهن على دولٍ أفريقية شتى منها أوغندا وليبيا والغابون وغينيا بيساو وموريتانيا لاستقبال أبرِيجو غارسيا. ورؤساء ثلاثٍ من هذه الدول شاركوا في قمة الولايات المتحدة–أفريقيا التي عقدت في يوليو.
يبدو أن حافَز الاستفادة من دبلوماسية تجارية أمريكية مثّل الجزرة التي تبعَت عصا قبول المرحَّلين. لكن ليس كل دول القارة خضعت للطلب الأمريكي. على سبيل المثال، رفضت نيجيريا — القوة الإقليمية في غرب أفريقيا — التملق لواشنطن مستندةً إلى مخاوف أمنية. فإذا كانت حليفًا قويًا يستطيع أن يتجاهل دعوة البيت الأبيض، لماذا تُذعن الدول الأصغر؟
ما الذي تكسبه ليبيريا — وما الذي تكسبه أفريقيا؟
رغم أن المفاوضات بين إدارة ترامب والحكومات الأفريقية جرت في كثير من الأحيان بعيدًا عن أعين الرأي العام، فإن الدول التي تقبل بالمرحلين قد تستغل هذه المسألة دبلوماسيًا لحشد مكاسبٍ خاصة بها: رفع قيود التأشيرات الأمريكية، إلغاء تعريفات جمركية مُجحفة، أو عقود استغلال معادن حيوية لتغذية طموحات التكنولوجيا الأمريكية.
ويبدو أن ليبيريا قد نالت مقابل امتثالها بعض الامتيازات. بعد لقاءات ثنائية عقدت في أكتوبر بين وزير الخارجية الأمريكي وممثلة ليبيريا، أعلنت واشنطن توسيع صلاحية أنواعٍ معينة من التأشيرات غير المهاجرة الصادرة لليبيريين من سنة إلى ثلاث سنوات مع السماح بدخولات متعددة. كانت هذه ميزة تمنحها مونروفيا للمواطنين الأمريكيين، لكن التعاملات المتبادلة قد توقفت خلال النزاع المسلح الطويل الذي شهده البلد بين 1989 و2003. ومع ارتفاع معدلات رفض التأشيرة لليبيريين عالميًا، قد تُعد سياسة التمديد هذه مقابلةً للقبول باستضافة أبرِيجو غارسيا.
كما قد يكون شمول ليبيريا في قمة الولايات المتحدة–أفريقيا مرتبطًا بتوقيعها اتفاقية امتياز مع شركة أمريكية للتنقيب عن المعادن، إذ يتيح مشروع بقيمة 1.8 مليار دولار للشركة تصدير خام الحديد القادم من غينيا عبر الممر الحديدي الليبيري — الاتفاق الذي أثار تكهنات حول جدواه ومستقبله، لا سيما في ظل تاريخ الشركات الأمريكية المستغل في ليبيريا.
على الرغم من فكرة راسخة عن «علاقة خاصة» بين ليبيريا والولايات المتحدة، فإن احتقار أمريكا لتلك الدولة لم يتبدد. كانت الولايات المتحدة من آخر الدول التي اعترفت باستقلال ليبيريا (1862). واستغلت شركات أمريكية مثل فايرستون ولَامكو ثروات ليبيريا من المطاط وخام الحديد لعقود بتواطؤ نخب محلية. وفي تسعينيات القرن الماضي وصف مساعد وزير الخارجية الأمريكية حينها ليبيريا بأنها «ذات أهمية استراتيجية ضئيلة» أثناء الحرب الأهلية. وفي مشهد محرج بامتياز سأل ترامب رئيس ليبيريا جوزيف بوكاي من أين تعلّم «هذا الإنكليزية الجيدة» خلال لقاء في البيت الأبيض.
اقتراح واشنطن بنقل أبرِيجو غارسيا إلى مونروفيا يمثل زلة جديدة في علاقات طويلة مليئة بالتوتر.
لو وُجِد ترامب في القرن التاسع عشر لكان ربما توافقت آراؤه مع دعاة ترحيل السود لدى جمعية الاستيطان الأمريكية. لكننا لسنا في ذلك القرن؛ وليبيريا، بوصفها دولة ذات سيادة «تاريخيًا منحت الحماية والمودة لمن يحتاج»، من حقها أن تذكّر أن سياساتها يجب أن تُنسَّق وفق مصالحها الوطنية وليس لمزاج رجالٍ بيض عنصريين.
الآراء المعبر عنها هنا تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة سياسة التحرير لدى الجزيرة.