من الحرب إلى الشتاء زوجان في غزة ينتظران مولودهما داخل خيمة غارقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

دير البلح، قطاع غزة — لم تَأتِ أول هطولات المطر الثقيلة لهذا الموسم كنعمة، بل كانت كارثة جديدة لسمر السلمي وعائلتها. في الصباح الباكر اجتاحت سيول الماء خيمتهم البالية في مخيم للنازحين، فاستفاقوا على أرضٍ تحولت إلى بركة موحلة.

في كل مكان حولهم تفرّق النازحون لإصلاح ما أتلفه المطر: يملأون الحفر بالماء بالرمل، ويرفعون المراتب المشبعة بالماء إلى شمس شتوية واهنة لتجف. ولِسمر البالغة من العمر 35 عاماً كان التوقيت الأسوأ؛ فهي على وشك الولادة وكل ما أعددته لمولودتها الجديدة قد تبلل وغمرته الطين.

«كل ملابس الطفل انغمرت بالطين كما ترى»، تقول وهي ترفع قطعاً صغيرة مغطاة ببقع بنية. «ما أعددته كله غرق، حتى الحفاضات وصندوق حليب الرضاعة.»

تعيش سمر مع زوجها وأطفالها الثلاثة في خيمة بدير البلح، قريبة من خيم والدتها وإخوتها. جميعهم نازحون عن منزلهم في تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة، جراء ما تصفه سرديات كثيرة بـحرب إسرائيل على غزة. «لا توجد كلمات تصف شعوري الآن»، تضيف سمر بصوت يوشك أن ينكسر. «أشعر وكأن عقلي سيتجمد. كيف أستقبل طفلتنا هكذا؟»

بينما تحاول إنقاذ الملابس والأغطية، يقوم زوجها وإخوته بجرف الرمال لملء البرك التي ابتلعت مساحتهم المعيشية. المراتب والملابس والأغراض الأساسية مبعثرة حولهم، مشبعة وبلا جدوى.

«وضعت حقيبة المستشفى الخاصة بالطفل في خيمة أمي، ظناً مني أنها ستكون آمنة»، تقول سمر، «لكن المطر سبقنا وغمر كل شيء، حتى الحقيبة.» تضيف بقلق: «لا أعرف من أين أبدأ: هل أعتني بأطفالي الذين ملابسهم مغبرة بالطين فأحتاج لغلي الماء وإعطائهم حماماً؟ أم أحاول تجفيف المراتب رغم صعوبة ذلك في هذا البرد؟ أم أجهز نفسي للولادة لأنها قد تكون قريبة في أي لحظة؟»

يقرأ  لماذا تكلف الأدوية البيولوجية مبالغ طائلة؟ هل ستنجح خطط ترامب في خفض أسعارها؟ أخبار دونالد ترامب

منذ اندلاع الحرب قبل عامين، حذرت منظمات الإغاثة مراراً أن العائلات النازحة في غزة ستتعرض لكوارث مع كل موسم شتاء، إذ يعيشون في خيام رقيقة متهالكة نتيجة الحظر الإسرائيلي الصارم على دخول مواد البناء والكرّافات إلى القطاع. «الخيمة ليست حلاً»، تقول سمر. «في الصيف الحر لا يُحتمل، وفي الشتاء نغرق. هذه ليست حياة. والشتاء لم يبدأ بعد فعلاً. ماذا سنفعل عندما يشتد البرد؟»

تتساءل أيضاً: «على الأقل، لماذا لم يُسمح بدخول الكرافانات؟ سقف أي يحميّنا إلى أن ينتهي كل هذا.»

زوجها عبد الرحمن السلمي، 39 عاماً، يجلس بهدوء مشغولاً بإصلاح الخيم مع إخوتها. في البداية كان مكتئباً لدرجة أنه لم يرغب بالحديث، لكنه بدأ يبوح تدريجياً. «كأب أشعر بالعجز»، يقول. «أحاول أن أمسك بخيوط حياتنا من جهة فتنهار من الجهة الأخرى. هذه حياتنا خلال الحرب وبعدها. لم نجد حلاً حتى الآن.»

يروي كيف أتاه اتصال من سمر في ذاك الصباح بينما كان متوجهاً لأول يوم عمل له في محل حلاقة صغير: «كانت تبكي وتصرخ، والجميع حولها يصرخ. قالت لي: ‘تعال بسرعة، المطر دخل خيمتنا من كل جهة.’» فترك كل شيء وركض عائداً تحت المطر. «المكان كان غارقاً كأنه مسبح، زوجتي وحماتي يصرخان، أطفالي يرتجفون من البرد خارج الخيمة، الشارع غارق… كان الناس يسكبون الماء بدلاءً. كل شيء كان صعباً للغاية.»

بالنسبة لعبد الرحمن بدا المطر الضربة القاضية: «كافحنا في كل شيء منذ بداية الحرب، والآن جاء المطر ليُنهي ما تبقى منّا.» يذكر بصعوبة بالغة قدرته على توفير الأساسيات للمولود في ظل النقص الحاد وارتفاع الأسعار: «اشتريت الحفاضات بـ85 شيقلاً، نفس النوع الذي كنا نحصل عليه سابقاً بـ13. الحليب الاصطناعي بـ70. حتى اللهاية غالية. وكل ما أعددناه لولادة الغد انغمر. لا أدري ماذا أفعل.»

يقرأ  الشرطة البيروفية تعتقل مشتبهين بعد بث مباشر لوقوع جريمة قتل امرأة في الأرجنتين

لا يستطيع الزوجان إلا أن يتذكرا الحياة التي كانت لهما؛ شقة دافئة ونظيفة في الطابق الثاني من تل الهوا، حيث كانا يعيشان بكرامة وسلام. «الآن الشقة والمبنى والحي كله مدمر»، تقول سمر. «كل بيوت عائلتنا اختفت. لم يتبق لنا خيار سوى العيش في خيام.»

أكثر ما يرعبهما استقبال مولودتهما في هذه الظروف. سمر مُقرّرة لعملية قيصرية وستعود بعدها إلى الخيمة. «لم أتخيل أبداً هذا المشهد»، تقول بصوتٍ خافت. «لم أتخيل أن أرحب بالابنة التي حلمنا بها تحت هذه الظروف.» تعترف أحياناً بشعورٍ من الذنب والندم على حملها أثناء الحرب: «في ولاداتي السابقة كنت أعود من المستشفى إلى شقتي، إلى سريري المريح، أعتني بنفسي وبطفلي بهدوء.» تضيف بحزن: «أي أم في العالم تفهم مشاعري الآن، حساسية الأيام الأخيرة من الحمل، الولادة نفسها، والأيام الأولى بعدها.»

مثل معظم العائلات في غزة، تنقل بيت سمر مرات عديدة بين خانيونس، رفح، النصيرات، ودير البلح. «هربت إلى بيت عائلتي، ثم إلى بيت عمي، ثم إلى بيت أهل زوجي…» الانتهاء؟ لا توجد نهاية واضحة للمسلسل الطويل للتهجير والشتات الذي يعيشونه؛ ومع اقتراب الشتاء الحقيقي تزداد مخاوفهم من القادم. كل بيت لجأنا إليه تحوّل الآن إلى خراب، والجميع صار بلا مأوى، تقول سمر.

أطفالهم، محمد (سبع سنوات)، كنان (خمسة أعوام)، ويَمان (ثلاث سنوات)، كانوا الأكثر معاناة وتضرراً.

«انظروا إليهم»، تقول سمر. «يرتجفون من البرد. لا يملكون ما يقيهم. والغِسيل الذي غسّلته لتوّه مغطّى بالوحل مرة أخرى.»

قبل أيام قليلة اضطرّوا لنقل الأطفال إلى المستشفى بعد أن تعرّضوا للدغات حشرات داخل المخيم. البرد والمرض يطاردانههم كلّ ليلة.

يقول عبد الرحمن: «لم يستطع الولد الأكبر أن ينام من وجع البطن. غطّيته وغطّيته، ولم ينفع. لا بطانيات… لاشيء.»

يقرأ  متظاهرون في جورجيا يحاولون اقتحام القصر الرئاسي في تبليسي

حتى الهدنة لم تجلب لسمر أي راحة؛ هي ترفض الرواية التي تزعم أن الحرب هدأت. بالنسبة إليها، الحرب لم تتوقف قط.

«يقولون إن الحرب انتهت. اين انتهت؟» تسأل سمر. «كل يوم قصف، كل يوم شهداء، وكل يوم نغرق في المعاناة. هذا بداية حرب جديدة، وليس نهايتها.»

نداء للمأوى والكرامة

أكثر ما يطلبه الزوجان هو شيء واحد فوق كل شيء: الكرامة.

«حتى الكرفانات ليست حلاً حقيقياً؛ هي مؤقّتة فقط»، تقول سمر. «نحن بشر. كان لنا منازل. مطلبنا أن يُعاد بناء بيوتنا.»

وتتوجّه نداؤها الأخير إلى المنظمات الإنسانية: «نحتاج ملابس، مراتب، بطانيات. كل شيء تالف. نحتاج من يقف معنا. نحتاج مكاناً يحمينا. من المستحيل الاستمرار في العيش على قطعة بلاستيك.»

الواقع الذي يختصره عبد الرحمن وهو يبسط طبقة أخرى من الرمل في المخيم: «بصراحة… صرنا أجساداً بلا أرواح.»

أمطار الشتاء أغرقت الخيام في غزة، والمتوقع هطول مزيد من الأمطار خلال الأشهر المقبلة، مما يزيد من مأساة المشردين ويضاعف حاجتهم الملحّة للمأوى والدفء.

أضف تعليق