التعلّم والبحث عن المعنى بين طغيان التكنولوجيا وندرة القيمة

التكنولوجيا تتبدّل؛ جوهر التعلم لا يتبدّل

لمدة ثلاثين عاماً ونحن نرافق المنظات في رحلتها نحو التعلم الرقمي. ثلاث عقود من دعم الشركات والمديرين والفرق في تحوّلهم المعرفي. خلال تلك السنوات تغيّرت كل الأشياء: التقنيات، الصيغ، الأدوات، اللغات، وحتى الأساليب التي نفكر بها في شأن التعلم. لكن ثمة شيء بقي ثابتاً: حاجة الناس إلى أن يكون ما نقدمه ذا معنى ومنفعة واضحة.

معنى التعلم في عصر الابتكار

صناعة التعلم والتطوير شهدت تحوّلاً جذرياً. في بداياتها كان التحدّي بسيطاً: لم تكن هناك أدوات أو منصات أو مهارات رقمية كافية لجعل التعلم في متناول الجميع. اليوم صار العكس تماماً: وفرة بكل شيء. منصات، محاكيات، أنظمة تجربة التعلم (LXPs)، ذكاء اصطناعي، تطبيقات مُلعة بالألعاب، بيئات واقع افتراضي ومُعزّز، ميكروتعلم، تعلم تكيّفي، صيغ هجينة… إن تسمي ما تريد، ستجده.

ومع ذلك، لا تزال العديد من المؤسسات تكافح. لم يعد التحدّي الأكبر في كيفية البناء أو الإطلاق، بل في ماذا نختار من هذا البوفيه الهائل. السؤال الحقيقي ليس ما الذي ننفّذ، بل ما الذي نقول له لا؛ حتى يظل للتعلم معنى وفاعلية.

أرى ذلك يومياً في أحاديثي مع العملاء. يوجد ضغط متزايد على أن نكون عصريين ومبتكرين، وأن نثبت أننا “نفعل شيئاً رقمياً”. كثيراً ما أسمع: «نحتاج ذكاءً اصطناعياً»، «نريد واقعاً افتراضياً»، «نبحث عن حل من الطراز الأول». أحياناً تسبق هذه الكلمات أي تحديد لهدف تعليمي واحد. هذا الصخب التكنولوجي مسكّر؛ يخلق وهم أن الأحدث والألمع هو الأفضل.

لكن الابتكار بلا تأمل لا يولّد قيمة. محاكي عالي التقنية لن يصحّح عملية ضعيفة. عالم ثلاثي الأبعاد لا يجعل الأشخاص أكثر دافعاً للتعلّم بحد ذاته. أحياناً ما تحتاجه المؤسسة ليس منصة فاخرة أخرى، بل كبسولة معرفة بسيطة مُصمّمة جيداً تُسهم في تغيير واضح وقابل للقياس. رؤية ذلك تتطلّب شيئاً نادراً اليوم: جرأة للنظر أعمق من موضة العصر.

يقرأ  الصين والهند تراقبان تقدم متمردي ميانمار نحو الحدود الغربية الاستراتيجيةأخبار عسكرية

التوقعات مقابل اتخاذ القرار

تحدٍ آخر ألاحظه هو الاتساع المتزايد بين التوقعات والقدرة على اتخاذ قرارات رشيدة لدى جهة العميل. كثيراً ما يُعامل التعلم الإلكتروني كمنتج في كتالوج: شيء تُطلُب، تُطلق، وتُشطب. لكن التعلم الإلكتروني ليس صيغة فحسب؛ إنه استراتيجية؛ ذهنية؛ طريقة للتفكير في نمو الأشخاص، وتدفّق المعرفة، وتطوّر الثقافة.

أصعب ما في عملنا ليس إنشاء دورات رقمية؛ بل مساعدة عملائنا على فهم أن التعلم الفعّال يحتاج تفكيراً منظومياً وليس مشروعيّاً. لا يمكن لدورة أو منصة أن توجد بمعزل؛ يجب أن تكون جزءاً من منظومة تنموية أوسع، مرتبطة بأهداف المؤسسة، بأسلوب إدارتها، وبقيمها. حين ينفصل التعلم عن السياق يصبح مجرد خانة تُشطب من مؤشرات الأداء.

أهمية العنصر البشري

ثم هناك الناس. التحدّي الثالث هو المواهب. ما يزال السوق يعاني ندرة محترفين يربطون بين البيداغوجيا والتكنولوجيا والأعمال. نحتاج إلى أشخاص يرون التعلم كتجربة وليس مجرد محتوى. قادة يعرفون كيف يوجّهون الآخرين خلال التغيير، لا فقط كيف يصمّمون شاشات. من يفهمون أن البيانات والتحليلات يمكن أن تدعم الإبداع لا أن تحلّ محله.

لهذا السبب استثمرنا في بناء قادة التعلم الإلكتروني؛ محترفين قادرين على ربط العوالم: الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات، الإبداع والبنية، التصميم والتحليلات. هم من سيمنحون المعنى لهذه الأحجية التكنولوجية ويعيدون الطابع الإنساني إلى التعلم. لأن التكنولوجيا لوحدها لا تنقذ؛ لا تصلح ثقافة تمنع التأمل؛ لا تبني دافعاً حيث يغيب الثّقة؛ لا تعلّم الناس الاستماع، بل قد تجعلهم يتكلّمون أسرع وأعلى بثقة أحياناً بلا هدف.

الخلاصة

ما يساعد المنظمات على النمو حقّاً هو التفكير النقدي والتواضع تجاه الأدوات التي تستخدمها. الشركات الأكثر نجاحاً لا تفوز لأن لديها أكبر الميزانيات أو أحدث التكنولوجيا، بل لأنها تتعلّم أسرع، تتكيّف أبكر، وتتعامل مع الأخطاء كجزء من مسار التعلم.

يقرأ  تسلا تكشف عن موديل واي جديد بسعر أقل وسط تصاعد المنافسة— أخبار صناعة السيارات

عالم التعلم الإلكتروني اليوم يشبه بوفيه لا نهاية له. كل شيء يبدو شهياً: لامعاً، ملوناً، مغرياً. لكن القليلين فقط يعرفون كيف يختارون ما يغذّي على المدى الطويل ويثري المنظمة فعلاً. الباقون يبقون بشعور من الامتلاء بلا ارتياح: كثير من تكنولوجيا، وقليل من المعنى.

ربما هذه هي نقطة التحول الحقيقية التي نعيشها الآن. بعد سنوات من الدهشة بما هو جديد، ربما حان الوقت للعودة إلى الأساسيات؛ للتوقّف وطرح أبسط الأسئلة: لماذا نعلّم؟ ماذا يحتاج فريقنا فعلاً؟ أي تغيير نريد أن نُحدث؟ لأن العودة إلى المعنى والغاية تجعل التكنولوجيا ما كانت دوماً مفترَض أن تكونه: حليفاً لا هدفاً في ذاته. مستقبل التعلم لن تُحدّده الأدوات، بل الحكمة في استخدامنا لها.

وربما لا تأتي الابتكار الكبير القادم من خوارزمية أو منصة أو خوذة جديدة، بل من إعادة اكتشاف الجانب الإنساني في التعلم: الفضول، والتفكّر، والتعاطف، والتجربة المشتركة للنمو. هناك يبدأ التحوّل الحقيقي.

ممكن أن يكون هذا بداية ثانية.

أضف تعليق